ملف عن تجربة الاسلاميين في تركيا 7


تجربة حزب العدالة والتنمية التركي .. خطأ التعميم والقياس


بقلم
محمد سليمان مجلة العصر
منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية قبل سنين معدودة أثارت تجربته الجدل الكبير بين السياسيين والمثقفين، ونالت النصيب الوافر من الاهتمام الإعلامي ليس على صعيد الحياة السياسية التركية فحسب، بل على مستوى العالم العربي والغربي على السواء. ويعود هذا الاهتمام الكبير بتجربة الحزب لجملة من الأسباب الرئيسة أبرزها أن الحزب قد أعاد هيكلة شعاراته وأفكاره بشكل بنيوي متخليا عن اللافتة الإسلامية، إذ صنّف قادة الحزب هويته الفكرية والسياسية بأنه من تيار يمين الوسط على غرار الأحزاب الأوروبية المحافظة. وساهمت الظروف الدولية التي التقطها قادة الحزب بذكاء شديد في وجود إرادة دولية بضرورة فتح المجال للحزب في الوصول إلى الحكم، وعدم وأدها من قبل العسكر، الأمر الذي اعتبر بمثابة الفرصة لاختبار إمكانية التعايش والتوافق بين أحزاب إسلامية [ معتدلة ] وبين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، من خلال شروط معينة تلتزم بها هذه الأحزاب في توجهاتها الفكرية والسياسية . خاصة بعد أحداث أيلول وإعلان الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب وبالتحديد حركات الإسلام الجهادي ، الأمر الذي استثمره قادة الحزب إلى أبعد مدى من خلال تسويق أنفسهم كمسلمين معتدلين يمكن أن يشكلوا نموذجا معتدلا يجسر الفجوة بين الإسلام والغرب ، ويعمل على تصحيح الصور النمطية المتبادلة بين الطرفين . ولم يمض وقت طويل على الانتصار الانتخابي الساحق الذي حققه الحزب وتشكيله لحكومته، حتى بدأت كثير من الدعوات في العالم الغربي والإسلامي التي تطالب بتعميم تجربة حزب العدالة كنموذج لـ"الاعتدال" في الإسلام، والذي يمتلك مقومات وشروط الحوار بل والتعايش الفعال مع الغرب بشكل عام والولايات المتحدة على وجه الخصوص، في حين تجاسر عدد كبير من الكتاب والمثقفين على إطلاق مصطلح "العلمانية المؤمنة" على أيدلوجيا الحزب وتوجهاته السياسية، وبدأ هذا الحزب يأخذ بعدا جديدا في الجدل الدائر في العالم العربي والإسلامي، خاصة الجدل بين التيارات الإسلامية والعلمانية المختلفة.ففي الساحة الإيرانية – على سبيل المثال – رحب الإصلاحيون بتجربة العدالة والتنمية واعتبروها نموذجا للأيدلوجيا المطلوبة، وللإسلام العصري المتقدم الذي يساير العصر ولا يتصادم معه، وتشكل المنطقة الوسطى المطلوبة في حوار الإسلام والعلمانية، وهي التجربة التي يجب أن تستفيد منها إيران كي تخرج من الأزمات السياسية والاقتصادية والفكرية الكبرى التي تعيش فيها اليوم.أمّا الأحزاب والمثقفون الإسلاميون في العالم العربي فقد انقسموا إلى اتجاهين رئيسين في قراءة التجربة: الاتجاه الأول "المعارض"، رأى أنّ حزب العدالة والتنمية قد تحول من حزب إسلامي إلى حزب علماني وأنه قد تخلى عن جوهر المنظومة الفكرية والسياسية الإسلامية من خلال تخليه نهائيا عن الشعار الإسلامي وقبوله الكامل بالرؤية السياسية والاقتصادية الليبرالية الغربية (التي تتضح من البرنامج الانتخابي للحزب ومن تصريحات قياداته)، وهو بذلك قد تجاوز نهائيا المنطقة الفاصلة بين العلمانية والإسلام، وهنا يُطرح السؤال في تحديد الفواصل الرئيسة بين الاستراتيجي والتكتيكي في تجربة الحزب؟! وكيف يمكن فك الاشتباك بين الأمرين. خاصة أن الحزب قد قبل بكثير من المحرمات السياسية عند الأحزاب الإسلامية، فهو قد أعلن تأييده لمسيرة السلام العربية – الإسرائيلية التي تعارضها مختلف الأحزاب والقوى الإسلامية، كما أنه أقر بالعلمانية ليس فقط على مستوى الشعارات، وإنما على مستوى البرامج والأفكار أيضا، ناهيك عن أنّ الحزب قد أدار ظهره للعالم الإسلامي وأعلن بأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على رأس أولوياته، وفوق هذا وذاك فقد استجاب الحزب لبرامج صندوق النقد الدولي بالكامل وهي البرامج التي تتخذ أغلب الحركات الإسلامية منها موقفا رافضا مشككا. أمّا الاتجاه الآخر فهو الاتجاه المؤيد لتجربة الحزب، والذي رأى فيها تجربة براغماتية بامتياز، وتتسم بالعملية، والابتعاد عن الجمود على الشعارات والمواقف السياسية والانتقال إلى مرحلة السياسة الشرعية المبنية على المصلحة السياسية والوطنية، وأن الحزب يقدم نموذجا متميزا لإمكانية التعايش بين الإسلام وروح العصر وإمكانية انخراط الأحزاب الإسلامية في الحياة السياسية بشكل عملي وتقديمها لرؤى واقعية تستند إلى لغة الأرقام والمعلومات. ولم ير هذا الاتجاه أن حزب العدالة والتنمية قد تخلى عن هويته الإسلامية وإنما استطاع تحويل قواعد الصراع مع العسكر التركي المتشدد ضد الدين والحامي العتيد للعلمانية التركية المتطرفة، التي أقامها مصطفى كمال أتاتورك، واستطاعوا من خلال توجههم الجديد الخروج من الحلقة المفرغة في خبرة الأحزاب الإسلامية التركية مع العسكر، والتي كانت تنتهي دوما بالانقلاب على الأحزاب الإسلامية وإخراجهم من اللعبة السياسية بل ومصادرة كل المكتسبات التي حققتها هذه الأحزاب. كما أنّ تجربة القادة الشباب الجدد وهم تلاميذ أربكان هي إكمال الطريق الذي بدأه أربكان لكنه لم يكمله ووقف عند منتصف الطريق بين البراغماتية والأيدلوجيا عالقا بين الخيارين . والمشكلة -في رأيي- أن الاتجاهين السابقين وقفا عند حدود القراءة العامة لتجربة الحزب دون التعمق في الشروط الموضوعية والذاتية التي أحاطت بها، التي ساهمت في إخراجها بالصورة التي هي عليها الآن، وبالضرورة فإن الظروف في الدول والمجتمعات الأخرى مختلفة في كثير من الجوانب عن التجربة التركية، وبالتالي إنّ عملية تعميم التجربة أو الحكم العام عليها عملية غير مستقيمة منهجيا وتفتقر إلى الموضوعية العلمية. ويرتبط بالاعتراض السابق اعتراض آحر وهو أن كلا الاتجاهين قد حصرا الخيارات في هوية الحزب الفكرية والسياسية بين احتمالين: الاحتمال الأول والقائم على أنّ قادة حزب العدالة والتنمية قد تخلوا فجأة وبتواطؤ كبير عن الخيار الإسلامي واتفقوا على الخيار العلماني الليبرالي، وقد تنكبوا عن خط الحركات الإسلامية واتجهوا إلى الغرب يستوردون بضاعته الفكرية والسياسية، وهو احتمال يبدو ضعيفا للغاية بالنظر إلى العمر الزمني لقادة الحزب الجدد وهم في أغلبهم من الشباب المثقف المتعلم، وأيضا بالنظر إلى تاريخهم القريب، والذي يؤكد على تمسكهم بالإسلام، ومن الصعوبة بمكان تصور حدوث قرار مفاجئ لدى قادة العدالة والتنمية - والذين كانوا بمثابة جزء رئيس من الصف الأول والثاني والثالث من قادة حزب الرفاه والفضيلة الإسلاميين – بالتخلي عن الهوية الإسلامية ، وأن يتواطئوا جميعا على ذلك!.أما الاحتمال الآخر فهو أن الحزب ما زال يتمسك بالهوية الإسلامية وبالشعارات التقليدية للحركات الإسلامية، وأن كل ما حصل في عملية "إعادة الهيكلة الفكرية والسياسية" ما هو إلا تكتيك في إطار اللعبة السياسية الداخلية، وهذا الاحتمال يصطدم كذلك بكثير من الحقائق أبرزها البرنامج الانتخابي للحزب وتصريحات قادته ومؤتمراتهم الصحفية، بل وتأكيدهم أن الخيار الفكري والسياسي الحالي هو خيار استراتيجي لا رجعة عنه، وأنه تم بعد تفكير طويل وعميق من قبل مؤسسي الحزب. من هنا فإن هناك احتمالا ثالثا يبدو أقرب إلى الموضوعية في قراءة تجربة الحزب، ويبتعد بنا عن دائرة الجدل والاختلاف في الفواصل بين التكتيكي والاستراتيجي بين الردة السياسية والفكرية وبين البراغماتية العملية، ويقوم هذا الاحتمال على حصول تطور في تصورات قادة ومؤسسي الحزب أدى بهم بشكل طبيعي ومنطقي إلى هذه التوجهات الفكرية والسياسية ، وقد نبع جزء كبير من هذا التطور من عدة أمور أهمها رحم الخبرة التركية المعاصرة التي وضعت إطار الصراع - بين العلمانية والعسكر من جهة وبين المجتمع وهويته الإسلامية من جهة أخرى - محددا عاما لأفاق التجربة السياسية التركية . الأمر الثاني حالة العجز التي تنتاب الخطاب السياسي الإسلامي في كثير من الميادين وعدم قدرته على تقديم البدائل العملية المناسبة والتي تستند إلى الدراسات المعرفية بعيدا عن لغة الشعارات ، ومن الواضح من برنامج الحزب أنه يحمل رؤية سياسية واقتصادية عملية اجتهادية ، يغلب عليها الطابع الليبرالي نعم وإن كان هناك استدراكات عليه في البعد الاجتماعي ، بما يجعل أفكار الحزب أقرب إلى الليبرالية الأوروبية المعتدلة [ الرفاه الاجتماعي ] من الليبرالية الأمريكية المحضة . الأمر الثالث قد تكون هذه بالفعل رؤية الحزب للخيارات والبدائل للمشكلات الكبرى التي تعصف بتركيا ، والحزب أولا وأخيرا لم يطرح رؤى فكرية للحل الإسلامي الحضاري العام – ولم يزعم ذلك - وإنما طرح رؤية اجتهادية سياسية لمشكلات الواقع التركي وكيفية الخروج منها. فهو إن رأى أن الحل للأزمة الاقتصادية هو اللجوء إلى المؤسسات الدولية ومشاريع الخصخصة والهيكلة العامة للاقتصاد فإن هذه الرؤية لا تصلح بالضرورة لدول عربية أخرى . الاحتمال الثالث يضعنا أمام ملحوظة رئيسة وهي ضرورة قراءة تجربة العدالة والتنمية في إطار شروطها الموضوعية والذاتية، وعدم فصلها عن تلك الظروف، وبالتالي ينقلنا من الجدل في إمكانية تعميم أو استنساخ هذه التجربة في العالم العربي إلى محاولة استكشاف المجالات والفوائد التي يمكن الخروج فيها من تجربة الحزب القصيرة نسبيا إلى الآن.وأزعم في هذا السياق أن تجربة العدالة والتنمية على الرغم من قصر عمرها النسبي مليئة بالمجالات التي يمكن أن ترفد الحركات والقوى الإسلامية بالدروس اللازمة والمفيدة، التي يمكن أن تفيد منها هذه الحركات لتتجاوز حالة الجمود وربما الانتكاسات بسبب عجزها عن مواجهة التحولات والتطورات المختلفة التي تحيط بها.

posted under |

0 قالوا رأيهم/ أضف تعليقك:

Post a Comment

زد الموضوع جمالا بتعليقك

Newer Post Older Post Home

    يا خسارة علينا .

    يا خسارة علينا         .

مدوناتي


المصحف الشريف مكتوب
ملف وورد
هدية للمدونين للاستفادة في الاقتباس
اضغط على الصورة
father small

شرفونا

كلمات أحبها


قال الله تعالى
اني والانس والجن في نبأ عظيم
اخلق ويعبد غيري ... ارزق ويشكر سواي خيري الي العباد نازل ... وشرهم الي صاعد اتودد اليهم بالنعم ... وانا الغني عنهم ويتبغضون الي بالمعاصي ... وهم افقر مايكونوا الي اهل ذكري اهل مجالستي فمن اراد ان يجالسني فليذكرني اهل طاعتي اهل محبتي اهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي ان تابوا فانا حبيبهم وانا ابوا فانا طبيبهم ابتليهم بالمعاصي لاطهرهم من المعايب من اتاني منهم تائبا تلقيته من بعيد ومن اعرض عني ناديته من قريب اقول له: اين تذهب؟ الك رب سواي؟الحسنة عندي بعشر امثالها وازيد والسيئة عندي بمثلها واعفووعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرت لهم

About Me

My photo
مشروع طبيب أحب الحرية جدا واحب الحب وأكره الظلم والنفاق أتمنى أن أرى بلادنا اسمها في السماء و احبكم

لمـــــــــــــــــــاذا دكتـــــــــــــور حر ؟

دكتور لأني طبيب
وحر لأني أؤمن بالحرية وأعشقها وأحلم بها تعم بلادي وكل الدنيا

أكتب هنا في مدونتي أشياء مني تعلمتها وشهدتها أو أصوغها كما رأيتها
خير من أن تظل الفكرة حبيسة الجمجمة
وكما قيل فإن الفكرة طائر وصيدها كتابتها
ولأجعلها ميراثا مكتوبا لمن بعدي
والله المعين

    دكتور حر على الفيس بوك

    القرآن بصوت والدي رحمه الله

    father small

    اخترنا لك


Recent Comments