انتماءك - ولاءك..طبعا مهم ........بس لمين بالضبط










نسمع كثيرا عن الإنتماء وضرورة أن يكون لدى الفرد انتماء وخصوصا للوطن وللدين وللبيت وللذات وأحياناً نسمع عن قتل الانتماء وعن بعض التصرفات التي تصدر من جهة ما تؤدي إلى إضعاف الشعور بالانتماء فإيه الحكاية بالضبط ...وأتحدث الآن عن الانتماء للوطن ..وهو الأمر الذي شابه الكثير من المغالطات خصوصا في مصر .





فإن حب الأوطان من الإيمان كما علمنا ديننا الحنيف من قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم "والله يا مكه إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " وهو شيء لا بد منه لقيام الأمم والحضارات فلولا تلك القيمة لأصبحت الحياة كالغابة ينهشها ساكنوها حتى إذا ما جعلوها جرداء تركوها وبحثوا عن غيرها وهكذا .





لكن الشيء الغريب هو ما يقصد به الإنتماء في مصر فأيام السادات الله يرحمه كان يقول "أنا مصر" ... "عيب انت بتكلم مصر" لا تعارض بين رمزية رئيس الدوله لكن اختزالها في شخصه وتحميل كل التناصحات واللوم والحوارات إلى تحويل شخص الرئيس إلى قيمة لا ينبغي تجاوزها ..أو حينما نسمع الآن عن مصر مبارك, أو حرمة ذكر رئيس الدوله بسوء ,أو ذلك المتصل الحارق للدم الذي اتصل في أحد البرامج الفضائية الشهيره وانتقد مجموعة من الطلاب في جامعة القاهره أصرت على التمسك بحقها وأقسمت بالله على ذلك وأنها لن تتنازل عن نيل حقوقها المشروعة في الجامعة ..وصفها ذلك المتصل الواعي جداً بأنها مجموعة اتعملها غسيل مخ ضد الوطن وأفقدت الانتماء مطلقا .





عجبي ... يا سادة أليس الأولى أن تكون هذه المجموعة هي الأكثر ولاءً وانتماء للوطن لأنها حرصت على مبدأ عدم إهدار الحقوق وتكافؤ الفرص وعدم السكوت على الظلم والإيجابية ... أليس من الأجدر أن تتم محاسبة الرؤساء ومتابعتهم من أجل مصر ... كان الفاروق عمر ومن قبله أبوبكر يحرصون على سماع انتقادات الناس لهم ويقول الصديق في خطبته الشهيره





" وإن رأيتموني على عوج فقوموني" وكلمات الفاروق الخالدة للرجل الذي قال له " وأن اعوججت قومناك بسيوفنا " ..لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها .. هل سمعنا أن الفاروق يوماً اتهم مخالفيه بالرده وعدم الانتماء مثلا أو عاقبهم بالحبس أو العزل أو التمييز ... اللهم لا





نريد أن نصحح مفهوم الانتماء وأن يكون ما يترتب عليه هو الدليل على حب الوطن حبا حفيفياً وتحمل الصعاب والعذاب والإضطهاد من أجله لأن أن نداهن الحكام ونسرق البلاد وننهب العباد ثم نكون بعده نحن المنتمون المخلصون الوفيون لهذا البلد





نريد وقفه يا سادة ............

posted under | 1 Comments

ملف عن تجربة الاسلاميين في تركيا 8


حزب العدالة والتنمية في تركيا رؤية من الداخل


بقلم : مصطفى محمد الطحان
soutahhan@hotmail.com

تحظى تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا..باهتمام الأوساط السياسية في منطقة الشرق الأوسط.. وربما في العالم الغربي كذلك.
وأكثر المهتمين بالأمر الأوساط الإسلامية التي تحرص أن تقول أن هذا الحزب..هو تجربة إسلامية جديدة.. بوجوه جديدة..ومنطلقات وأفكار جديدة..تعمل على التوفيق بين الديمقراطية والإسلام..وتحسم صراع الهوية بين الإسلامية والأوروبية.. وتصالح بين ألوان الطيف السياسي في تركيا فتستقطب المزيد من أصوات الإسلاميين والعلمانيين اليمينيين واليساريين..وتتفاهم مع الجميع عربياً وأمريكياً وإسرائيلياً..
وكنت كتبت مقالاً واحداً حول هذه التجربة..لم يفهم منه القراء كل ما أردت..والحقيقة أني لم أرغب أن أخوض في التفاصيل..أو أن أضع النقاط الساخنة فوق الحروف..مستفيداً من علاقاتي الشخصية مع كل هؤلاء الذين قادوا تلك التجارب السابقة واللاحقة.. واكتفيت بالقول: أن هؤلاء الشباب الذين أصبحوا حكاماً في بلد مهم مثل تركيا.. يتمتعون بالكفاءة والذكاء..ويخوضون معركة شرسة مع القوى الداخلية والخارجية..سيستسلمون لها في آخر المطاف..أو سيصححون مساراتهم.
والأمر الذي دفعني للكتابة مرة ثانية..هو كثرة الكتابات التي بدأت تحلل الحدث..ويدفعها الخيال إلي استنتاجات في غاية الغرابة..
وقبل أن ابدأ .. أحب أن أسأل هؤلاء.. الذين وضعوا كل المحاسن في أشخاص الحزب الجديد..ماذا تركتم لأنفسكم لتقولوه في حال فشل هؤلاء..أو حدوث انشقاق كبير آخر في أوساطهم.. أو إزاء اتخاذهم مواقف يصعب تفسيرها أو قبولها أو الدفاع عنها؟
الإنسان بطبعه يثني على الناجحين ولا يرى إلا تفوقهم.. ومن طبعه أيضاً أنه لا يرى أي فضيلة لمن سقط..ينسى جميع فضائله..وينسبها لغيره.
ولكن.. هل هذه هي سمة المحللين السياسيين المنصفين؟!
مواقف سياسية
1- وحتى نضع الحدث في سياقه الصحيح.. نحتاج أن نستعرض الأوضاع منذ سقوط السلطان عبد الحميد (رحمه الله)..وانتقال الحكم من قائد الجامعة الإسلامية إلى حزب الإتحاد والترقي القومي الطوراني الذي حكم البلاد وأدخل الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
وفي ظل محاصرة الخليفة في قصره..وتمكن الانقلاب بقيادة مصطفي كمال تساعده قوات الاحتلال(اليونان وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا).. وسحق القوى الإسلامية التي تدعم الخليفة.. وتنفيذ مقررات مؤتمر كامبل الذي عقد في لندن عام 1905 بضرورة إسقاط الخلافة الإسلامية.. فقد تم عقد مؤتمر لوزان عام 1923 والذي أسفر رسمياً(وبقرار غربي وتوقيع تركي) بإنهاء دور الإسلام في تركيا.. وتحويل البلد إلي بلد أوروبي الشكل والمضمون.. وحكم مصطفى كمال وزميله عصمت أنينو من خلال حزب الشعب حتى عام1945.. وكانت مهمته الرئيسية تثبيت دعائم ومبادىء وشروط معاهدة لوزان.
2- وحكم عدنان مندريس الذي أسس الحزب الديمقراطي حتى عام 1960..وهو لا يختلف سلوكاً ولا سياسة عن الذين سبقوه..كل ما في الأمر أنه أعطى للمسلمين بعض الحريات الدينية.. وهي حريات متفق عليها بين القوة الأولى (وهي الجيش الحاكم الضامن لمبادئ لوزان) ومجلس الوزراء..ولقد تناول المحللون هذه النقطة فقالوا:إن الوضع المضغوط يحتاج إلي شيء من التنفيس بين الحين والحين حتى لا تتحول النقمة المكبوتة إلى ثورة شعبية يصعب استيعابها.
3- وبعد التنفيس يجري رصد التجربة وقياس المعارضة..ولقد امتدت فترة الرصد بعد انقلاب عام 1960 عشر سنوات كاملة.. حاول الإسلاميون ترشيح علي فؤاد باشكيل رئيساً للجمهورية؛حتى إذا أمّنوا له الأغلبية في البرلمان..جاء الأمر من السلطة الأعلى فانتخب غيره..هذه الفترة استفاد منها المسلمون استفادة كبيرة..نمت فيها حركة الترجمة, وتصاعد فيها العمل الطلابي MTTB,ونمت حركة المساجد,وبدأت الصحف الإسلامية تطل علي الجمهور..ولقد عشت هذه المرحلة بكل كياني وانفعلت فيها..وكان لنا دور لا بأس به في العمل الطلابي وحركة الترجمة..وفي نهاية هذه المرحلة أسس اربكان حزب النظام الوطني عام 1970.
4- ولا بأس من استطراد بسيط نفهم حركة نجم الدين أربكان واستراتيجية المعارضة الإسلامية في تلك المرحلة..
إن سقوط الدولة الإسلامية منذ إسقاط السلطان عبد الحميد وحتى عام 1924 تاريخ إسقاط الخلافة بشكل رسمي..لم يمر بسلام.. فقد ثار الشعب في الأناضول.. وسقط منه حوالي ربع مليون شهيد..وصنفت الدولة التركية الحركة النقشبندية الصوفية بأنها المعارض الأهم للنظام العلماني..كانت المعارضة الإسلامية تدعم مندريس وتعرف سلبياته.. واستفادت إلي أقصى حد من الفترة التي تلت سقوطه.. وفي عام 1970 قرر جناحا المعارضة الإسلامية: الحركة النقشبندية بزعامة الشيخ محمد زاهد كتكو، والحركة النورسية التي أنشأها المجاهد سعيد النورسي، إنشاء حزب النظام الوطني، فالوقت قد حان في رأيهم لتصعيد الموقف والتقدم خطوة إلى الأمام.
وبعد 9 اشهر لم يتحمل( الضباط الضامنون لمعاهدة لوزان) طريقة الحزب الجديد في العمل.. فقدم الجيش بقيادة الجنرال محسن باتور إنذاراً بحل الحزب في 21 آذار(مارس) 1971 وتولت المحكمة الدستورية تنفيذ الإنذار.
5- واستمر تحالف الجماعتين الإسلاميتين وشكلا عام 1972 حزب السلامة الوطني الذي خاض الانتخابات وحصل علي خمسين مقعداً من مقاعد البرلمان.. وشكل أول حكومة إئتلافية مع حزب الشعب الجمهوري بزعامة بولنت أجاويد.. وهذا التحالف الذي كان سبباً في انفصال الشريكين النورسيين والنقشبنديين, هو من أعظم المكاسب التي استفادت منها الحركة الإسلامية على إمتداد ثلث قرن، فقد شهد البروتوكول الموقع بين الحزبين, تراجع حزب الشعب الذي وقع معاهدة لوزان عن بعض شروطها.. مثل:
· الاعتراف بالإسلام السياسي والإئتلاف مع الحزب الذي يمثله.
· تقرير تدريس مادة(الأخلاق) أي الدين الإسلامي في المدارس الحكومية.
· إمكانية أن يلتحق خريجو المدارس الدينية بكل الكليات الجامعية في البلاد.. بما فيها كلية الشرطة..وكانوا من قبل لا يستطيعوا دخول أية كلية باستثناء كلية الشريعة.
· تسلم حزب السلامة الوطني وزارة الداخلية التي تلعب دوراً هاماً في حياة الدول، بالإضافة إلي سبعة وزارات أخرى ومنصب نائب رئيس الوزراء.
· اتفقوا على إخراج مساجين الرأي, ودعم الحريات العامة, وحرية الصحافة..
هذه الشروط لا يستطيع إبرامها إلا رجل ذكي محنك مثل نجم الدين أربكان..
6- لقد استفادت الحركة الإسلامية من هذه الحكومة أكثر مما توقعت قيادات العسكر.. فالوزراء الثمانية وشخصية أربكان تمكنت من صبغ الحكومة كلها بالصبغة الوطنية الإسلامية.. إلى درجة إسقاط وزير الخارجية تحت شعار أنه يحامي عن إسرائيل في احتلالها للقدس. الأمر الذي أدي إلي إنهاء الائتلاف.
كما أن بعض الأحزاب اليمينية مثل حزب العدالة بزعامة سليمان ديميرال..تمكن من إقناع النورسيين بفض تحالفهم مع النقشبنديين.. وعادوا إلي طريقتهم في التحالف مع الأحزاب مقابل بعض المكاسب.. وفي الانتخابات البرلمانية التالية كان النورسيون هم رأس الحربة التي حورب بها حزب السلامة..وشنّ هؤلاء الأتقياء ورثة الزعيم الإسلامي الكبير بديع الزمان سعيد النورسي، حملات الكذب والافتراءات ضد الحزب الذي ساهموا في تشكيله..كانت النقطة الرئيسية التي ركزوا عليها واعتبروها من أخطاء نجم الدين أربكان تحالفه مع حزب الشعب.. ومع ذلك فقد انتهى بهم المطاف (بعد عشرين سنة) إلى التحالف مع حزب الشعب ذاته بزعامة أجاويد وإعطائه أصواتهم مقابل مكاسب تافهة.
7- في عملية التقييم التي أجرتها القوى التي وكلت بحراسة أهداف لوزان.. قررت المسارعة بإجهاض دور حزب السلامة فقد تجاوز (في رأيهم الحد).. فقام انقلاب عام1980 بقيادة رئيس أركان الجيش كنعان افرين(1). وأعاد الانقلابيون الأمور إلى المربع الأول .. وزج بالقيادات الإسلامية في السجون.. وأحدث الانقلابيون ما يسمى بمجلس الأمن القومي.. أصبح الجيش بموجبه يتولى مباشرة تصحيح الأمور( من وجهة نظره).. واليوم مجلس الأمن القومي الذي جعلوه مؤسسة دستورية هو الذي يتولى مراقبة الأوضاع السياسية شهريا عن طريق اجتماع أركانه.
8- الحدث المهم الذي وقع في أعقاب انقلاب سبتمبر 1980.. هو تعيين تورغوت أوزال..(وكان أحد شخصيات حزب السلامة,فقد ترشح عن الحزب في منطقة أزمير).. مستشاراً للإنقلابيين.. وكانت وظيفته الأولى هي الترويج للانقلاب والتهجم علي حزب السلامة. فقد أدركوا أن إسلامياً فقط.. يستطيع أن يجهض هذه الصحوة الإسلامية الكبرى.
زار اوزال البلاد العربية واتصل بالشخصيات الإسلامية.. وزار مراكز التأثير الإسلامية في تركيا لإقناعهم بفكرة تشكيل حزب بديل..وحاول إقناعهم بأن أربكان (وكان لا يزال في السجن)غير مقبول لدى العسكر(والأفضل أن نتجاوز المرحلة بتغيير الوجوه)..واستطاع تورغوت أوزال بمؤازرة أخوه كوركوت أوزال ( الذي كان من دعائم حزب السلامة) أن يستقطب أعداداً كبيرة من شعبية السلامة.. وبعد ثلاث سنوات من الانقلاب.. الذي أعاد العسكر فيه صياغة الحياة السياسية.. حلوا البرلمان.. وألغوا الأحزاب.. وأعادوا صياغة الدستور.. وأوجدوا مجلس الأمن القومي.. ثم أطلقوا من جديد حرية تشكيل أحزاب جديدة.... وأعادت الحركة الإسلامية تشكيل حزبها الرفاه عام 1983.
وفي الانتخابات البرلمانية فاز فيها حزب أوزال بالأغلبية الكبيرة (فكل القوى الداخلية والخارجية تؤازره).. ولم يحصل يومها حزب الرفاه إلا على (1.5%)..ولقد انتهى استغراب الناس عندما أبرق وزير الخارجية الأمريكي الجنرال هيج إلى أوزال مهنئاً بالفوز الكبير واصفاً إياه برئيس الوزراء.. وبعـد هـذه البرقية وافـــق العسكر على تعيين أوزال رئيساً للوزراء.وبقي أوزال محلاً للتنازع بين الإسلاميين، حتى انتشر فساده وفساد أسرته الأخلاقي والمالي.. وبعد أن جمع حوله الطبقة السياسية المتعفنة، وأسقـط تــركيا في حفرة الديون التي كانت في حدود الـ 30 مليار فتضاعفت أضعافاَ كثيرة بفضل سياسته المنفتحة على الأمريكان وصندوق النقد الدولي ..
9- بدأت مسيرة الرفاه بـ1،5% (هم رجال الدعوة الأوائل الذين شكلوا جميع الأحزاب الإسلامية، النظام والسلامة والرفاه) ثم ارتفع الرقم إلى 6،5% ثم إلى 21،3% وذلك بفضل الإصرار الذي لا يعرف الهزيمة .. والإيمان الذي لا يدركه ضعف .. الذي يتميز به نجم الدين أربكان.
وحتى عندما أصبح الرفاه الحزب الأول في البرلمان .. رفضوا إشراكه في السلطة .. شكلوا في البداية حكومة أقلية من أحزاب فاسدة .. اختلفت على الفساد واقتسام الحصص.. مما اضطر رئيس الجمهورية أن يكلف رئيس حزب الرفاه نجم الدين أربكان بتشكيل الوزارة..
وقبل أن يتسلم أربكان منصب رئيس الوزراء، وأن يشكل حكومته الاتلافية، ذهب إلى البرلمان .. وعلى طريقة الأساتذة .. شرح خطته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبرلمانيين .. موضحاَ كلامه بالخرائط والخطوط البيانية .. وقال كلمته المشهورة : طبقوا هذا من أجل تركيا .. أو اتركونا نطبقها نحن.
وعندما أصبح العسكر أمام مأزق الفساد .. وضغط البرلمان.. وضغط الشعب الذي يطالب بحكومة نظيفة.. عندها، اضطروا إلى تكليف أربكان بتشكيل الوزارة ضمن القيود التالية :
· تسليم جميع الوزارات السيادية إلى حزب الأقلية.
· كل قرار من مجلس الوزراء يجب أن يوقع عليه رئيس الوزراء ونائبه..
كانت خطة أربكان (في هذه الشروط الصعية) أن تنجح الحكومة بإيجاد وسائل غير تقليدية لخدمة البلد.. نجاحاً يغير من عقلية العسكر.. ويزيد من تعلق الشعب بها.. ولكن رهانه لم تتح له المدة الكافية أن ينجح..
باعتراف جميع الساسة اليمينيين واليساريين .. والمعلقين الصحفيين.. والقائمين على أمر البورصة..إن عهد أربكان الذي لم يستمر أكثر من سنة واحدة هو عهد الازدهار الأفضل الذي مرٌ على تركيا منذ تأسيس الجمهورية..
لا يسمح مقالنا هذا أن نقول ماذا فعلت حكومة الرفاه .. وكيف نجحت.. وقد نكتب مقالاَ آخر عن هذه الإنجازات.. والذي يهمنا هنا, هو ما بعد هذه المرحلة..
10- كيف أنتهت حكومة أربكان.. ودور أطراف المؤامرة في إسقاطها..؟
· عندما قبل الجيش أن يشكل أربكان الحكومة.. كان يطمح أن يسجل أربكان بيده إنهاء التجربة السياسية الإسلامية..وأربكان براغماتي من الطراز الأول.. ولكنه لا يساوم على المبادئ..
· منذ الأيام الأولى لتسلمه السلطة..أعلن أربكان عدة قضايا اقتصادية(والاقتصاد أكثر ما يشغل بال الأتراك..فالمادية استقرت في نفوسهم) منها إيقاف الاقتراض من الداخل والخارج..تسديد أكبر قسط من الدين الداخلي الذي كان يرهق الاقتصاد.. رفع رواتب جميع الموظفين والجيش والمتقاعدين بنسبة تتراوح بين 50 – 70 %.
ومنها إيقاف الفساد وتوفير 30 مليار دولار من إيقافه.
ومنها إيقاف الضرائب لأي سبب كان..
هذه الإجراءات جعلت الجميع (رجال المال ورجال الإقتصاد والبورصة والموظف والعامل) يشيد بتجربة أربكان الاقتصادية.
·ومنذ الأيام الأولى لحكومة أربكان..وضع شعار حزبه (تركيا جديدة..وعالم جديد) موضع التنفيذ.. كان يريد إنقاذ تركيا من كونها دولة بلا هوية..يستخدمها الغرب لقضاء مصالحه..إلى دولة تفهم دورها..وتتمسك بهويتها وتاريخها وأصالتها..فأعلن عن تشكيل المجموعة الثمانية الاقتصادية..التي مهّد لها بسلسلة زيارات إلى إيران وباكستان واندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا..
وفي 15 يونيو 1997 عقد في استانبول اللقاء التأسيسي للمجموعة الاقتصادية لأكبر ثمان دول إسلامية يزيد عدد سكانها عن 800 مليون نسمة.
وبدأت الصفقات الاقتصادية..أولها مع إيران بمبلغ 30 مليار دولار..
كانت المجموعة خطوة للحوار مع الغرب..الذي ينظر للإسلام نظرة دونية وينظر للمسلمين نظرة استعلاء واستصغار.
·قبل استلام الحكومة وبعدها حوّل أربكان يوم 29 مايو من كل سنة، إلى مؤتمر إسلامي عالمي يضم قيادات العمل الإسلامي من أنحاء العالم.. يجتمعون لمناقشة أوضاع وقضايا المسلمين.. يرسل وفداً إلى أفغانستان لحلّ خلافات المجاهدين.. يستقدم قيادات العمل في باكستان يحفزهم للتدخل لحقن دماء المسلمين عند جيرانهم.. ومع الزمن أصبح هذا المؤتمر مجموعة من اللجان التربوية والسياسية والطلابية والاقتصادية والاستراتيجية وهكذا.. كان يعتبر استانبول التي كانت عاصمة للخلافة.. تستطيع اليوم أن تحلّ قضايا المسلمين!!
·ولقد سجل الأمريكان في كتاب لهم صدر بعنوان (أمريكا والإسلام السياسي).. قضية إسقاط حكومة أربكان جاء فيه:
(إن اربكان رجل منطقي.. تحاوره فيحسن الاستماع إليك.. ويحاورك فيقدم لك آراء سديدة.. ومع ذلك فقد كان لابد من التدخل لإسقاط حكومته لأسباب ثلاث:
السبب الأول- تحسينه للاقتصاد.. بدون الاعتماد على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبدون الاقتراض من أمريكا.. وهذه مشكلة في حسابات المستقبل.
السبب الثاني- هو إنشاء المجموعة الاقتصادية الثمانية بزعامة تركيا.. وهي خطوة نشاز بالنسبة للنظام العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا لاستغلال العالم لمصلحتها.
والسبب الثالث- هو أن اربكان رجل أصولي.. على صلة وثيقة مع الحركات الأصولية في المنطقة..
هذه هي الأسباب الحقيقية لتآمر القوى النافذة داخل تركيا وخارجها لإسقاط حكومة اربكان.. ومن ثم حلّ حزب الرفاه.. ومن ثم الحكم على أربكان بإبعاده عن العمل السياسي لمدة خمس سنوات..
ولم يعد كافياً إيجاد تورغوت أوزال جديد.. بل كان لابد من شق حزب الرفاه من الداخل.. واستخدموا كل أساليب الإغراء في هذه العملية.. وقبل بعضهم هذه الإغراءات ناسياً كل تاريخه ومواقفه ودينه.
11- فالأسباب الحقيقية لإسقاط حزب الرفاه وحكومة نجم الدين اربكان.. لم تكن بالتالي بسبب زيارته لليبيا أو طهران.. ولم تكن بسبب دعوته البعض لإفطار في رمضان.. كما يحلو للبعض أن يقول، بل بسبب الإنجازات الكبرى التي حققها سواء على صعيد البلديات التي رفع فيها شعار الإيمان يعني العمل لخدمة الناس.. أو على صعيد الحكومة.. أو على صعيد تثبيت الهوية.. أو على صعيد إنشاء محور اقتصادي سياسي إسلامي عالمي.. يحاور من خلاله قوى الرأسمالية العاتية(2).
12- أما الحزب الجديد، حزب العدالة والتنمية، فقبل أن نعطي رأينا في هويته، وهل هو استمرار للحركة الإسلامية التركية باستراتيجية جديدة.. أم هو تورغوت أوزال جديد؟
قبل ذلك نحب أن نذكر بعض الحقائق:
· أن زعماء الحزب الجديد قدموا تنازلات كبيرة لمؤسسات مشبوهة داخلية وخارجية عملت باستمرار على إغراق تركيا في أزمتها الاقتصادية والسياسية.
مثل توسياد (مجموعة رجال الأعمال النافذة في تركيا) والتي تقدمت بمذكرة إلى العسكر نبهت فيها من خطر الإسلام السياسي.. وكانت المذكرة بكل بنودها هي جدول
أعمال مجلس الأمن القومي الذي أطاح بحكومة اربكان.
ومثل العناصر العلمانية التي انسلخت من أحزابها لتنضم إلى الحزب الجديد.. ولتنفذ سياسة المؤسسات المشبوهة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي لم يخف ترحيبه لدعم التجربة الجديدة.
ولقد اضطرت قيادات الحزب الجديد إلى تليين مواقفها للوفاء بتعهداتها المسبقة لهذه المؤسسات.
·إن مستوى التدين العام لدى الشعب التركي قد انخفض بوضوح.. فالخطاب الاربكاني كان يركز على البعد الديني وأهميته في تعريف الهوية التركية.. أما في الحزب الجديد.. فيصرح قادته: (نحن لسنا حزباً دينياً، نحن حزب أوروبي محافظ).. ويؤكد رئيس الحزب: (إن القرآن كتاب ديني، والديمقراطية شكل للحكومة، ومن الخطأ أن نضع الاثنين ضمن تقسيم واحد).. وانتقد رئيس الحزب: (استغلال الدين وتوظيفه في السياسة)..
ومن هذا المنطلق فإنه لا يعطي لقضية مثل الحجاب الأولوية، ولا يريد أن يكون سبباً في صدام مع المؤسسة العسكرية)..
وعندما كتب الأمريكان استراتيجيتهم الجديدة، أثنوا على حزب العدالة والتنمية وقالوا: إنهم فصلوا الدين عن السياسة.
·والسؤال هل هذه الرؤية هي تخل تكتيكي مؤقت، في مواجهة مؤسسة الجيش والعلمانية، وتحايل على الواقع السياسي التركي؟ أم أن الأمر يصل إلى حدود حدوث تغييرات استراتيجية في نمط تفكير ورؤية الحزب على المدى البعيد؟ يقول اردوغان: (إن هذه هي رؤية الحزب الحقيقية، وسيلاحظ المتتبعون له صدقه في الإلتزام بهذه الشعارات). ويتابع اردوغان: لقد غيرنا موقفنا فلماذا لا تريدون أن تصدقوا؟

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الاسلاميين في تركيا 7


تجربة حزب العدالة والتنمية التركي .. خطأ التعميم والقياس


بقلم
محمد سليمان مجلة العصر
منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية قبل سنين معدودة أثارت تجربته الجدل الكبير بين السياسيين والمثقفين، ونالت النصيب الوافر من الاهتمام الإعلامي ليس على صعيد الحياة السياسية التركية فحسب، بل على مستوى العالم العربي والغربي على السواء. ويعود هذا الاهتمام الكبير بتجربة الحزب لجملة من الأسباب الرئيسة أبرزها أن الحزب قد أعاد هيكلة شعاراته وأفكاره بشكل بنيوي متخليا عن اللافتة الإسلامية، إذ صنّف قادة الحزب هويته الفكرية والسياسية بأنه من تيار يمين الوسط على غرار الأحزاب الأوروبية المحافظة. وساهمت الظروف الدولية التي التقطها قادة الحزب بذكاء شديد في وجود إرادة دولية بضرورة فتح المجال للحزب في الوصول إلى الحكم، وعدم وأدها من قبل العسكر، الأمر الذي اعتبر بمثابة الفرصة لاختبار إمكانية التعايش والتوافق بين أحزاب إسلامية [ معتدلة ] وبين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، من خلال شروط معينة تلتزم بها هذه الأحزاب في توجهاتها الفكرية والسياسية . خاصة بعد أحداث أيلول وإعلان الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب وبالتحديد حركات الإسلام الجهادي ، الأمر الذي استثمره قادة الحزب إلى أبعد مدى من خلال تسويق أنفسهم كمسلمين معتدلين يمكن أن يشكلوا نموذجا معتدلا يجسر الفجوة بين الإسلام والغرب ، ويعمل على تصحيح الصور النمطية المتبادلة بين الطرفين . ولم يمض وقت طويل على الانتصار الانتخابي الساحق الذي حققه الحزب وتشكيله لحكومته، حتى بدأت كثير من الدعوات في العالم الغربي والإسلامي التي تطالب بتعميم تجربة حزب العدالة كنموذج لـ"الاعتدال" في الإسلام، والذي يمتلك مقومات وشروط الحوار بل والتعايش الفعال مع الغرب بشكل عام والولايات المتحدة على وجه الخصوص، في حين تجاسر عدد كبير من الكتاب والمثقفين على إطلاق مصطلح "العلمانية المؤمنة" على أيدلوجيا الحزب وتوجهاته السياسية، وبدأ هذا الحزب يأخذ بعدا جديدا في الجدل الدائر في العالم العربي والإسلامي، خاصة الجدل بين التيارات الإسلامية والعلمانية المختلفة.ففي الساحة الإيرانية – على سبيل المثال – رحب الإصلاحيون بتجربة العدالة والتنمية واعتبروها نموذجا للأيدلوجيا المطلوبة، وللإسلام العصري المتقدم الذي يساير العصر ولا يتصادم معه، وتشكل المنطقة الوسطى المطلوبة في حوار الإسلام والعلمانية، وهي التجربة التي يجب أن تستفيد منها إيران كي تخرج من الأزمات السياسية والاقتصادية والفكرية الكبرى التي تعيش فيها اليوم.أمّا الأحزاب والمثقفون الإسلاميون في العالم العربي فقد انقسموا إلى اتجاهين رئيسين في قراءة التجربة: الاتجاه الأول "المعارض"، رأى أنّ حزب العدالة والتنمية قد تحول من حزب إسلامي إلى حزب علماني وأنه قد تخلى عن جوهر المنظومة الفكرية والسياسية الإسلامية من خلال تخليه نهائيا عن الشعار الإسلامي وقبوله الكامل بالرؤية السياسية والاقتصادية الليبرالية الغربية (التي تتضح من البرنامج الانتخابي للحزب ومن تصريحات قياداته)، وهو بذلك قد تجاوز نهائيا المنطقة الفاصلة بين العلمانية والإسلام، وهنا يُطرح السؤال في تحديد الفواصل الرئيسة بين الاستراتيجي والتكتيكي في تجربة الحزب؟! وكيف يمكن فك الاشتباك بين الأمرين. خاصة أن الحزب قد قبل بكثير من المحرمات السياسية عند الأحزاب الإسلامية، فهو قد أعلن تأييده لمسيرة السلام العربية – الإسرائيلية التي تعارضها مختلف الأحزاب والقوى الإسلامية، كما أنه أقر بالعلمانية ليس فقط على مستوى الشعارات، وإنما على مستوى البرامج والأفكار أيضا، ناهيك عن أنّ الحزب قد أدار ظهره للعالم الإسلامي وأعلن بأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على رأس أولوياته، وفوق هذا وذاك فقد استجاب الحزب لبرامج صندوق النقد الدولي بالكامل وهي البرامج التي تتخذ أغلب الحركات الإسلامية منها موقفا رافضا مشككا. أمّا الاتجاه الآخر فهو الاتجاه المؤيد لتجربة الحزب، والذي رأى فيها تجربة براغماتية بامتياز، وتتسم بالعملية، والابتعاد عن الجمود على الشعارات والمواقف السياسية والانتقال إلى مرحلة السياسة الشرعية المبنية على المصلحة السياسية والوطنية، وأن الحزب يقدم نموذجا متميزا لإمكانية التعايش بين الإسلام وروح العصر وإمكانية انخراط الأحزاب الإسلامية في الحياة السياسية بشكل عملي وتقديمها لرؤى واقعية تستند إلى لغة الأرقام والمعلومات. ولم ير هذا الاتجاه أن حزب العدالة والتنمية قد تخلى عن هويته الإسلامية وإنما استطاع تحويل قواعد الصراع مع العسكر التركي المتشدد ضد الدين والحامي العتيد للعلمانية التركية المتطرفة، التي أقامها مصطفى كمال أتاتورك، واستطاعوا من خلال توجههم الجديد الخروج من الحلقة المفرغة في خبرة الأحزاب الإسلامية التركية مع العسكر، والتي كانت تنتهي دوما بالانقلاب على الأحزاب الإسلامية وإخراجهم من اللعبة السياسية بل ومصادرة كل المكتسبات التي حققتها هذه الأحزاب. كما أنّ تجربة القادة الشباب الجدد وهم تلاميذ أربكان هي إكمال الطريق الذي بدأه أربكان لكنه لم يكمله ووقف عند منتصف الطريق بين البراغماتية والأيدلوجيا عالقا بين الخيارين . والمشكلة -في رأيي- أن الاتجاهين السابقين وقفا عند حدود القراءة العامة لتجربة الحزب دون التعمق في الشروط الموضوعية والذاتية التي أحاطت بها، التي ساهمت في إخراجها بالصورة التي هي عليها الآن، وبالضرورة فإن الظروف في الدول والمجتمعات الأخرى مختلفة في كثير من الجوانب عن التجربة التركية، وبالتالي إنّ عملية تعميم التجربة أو الحكم العام عليها عملية غير مستقيمة منهجيا وتفتقر إلى الموضوعية العلمية. ويرتبط بالاعتراض السابق اعتراض آحر وهو أن كلا الاتجاهين قد حصرا الخيارات في هوية الحزب الفكرية والسياسية بين احتمالين: الاحتمال الأول والقائم على أنّ قادة حزب العدالة والتنمية قد تخلوا فجأة وبتواطؤ كبير عن الخيار الإسلامي واتفقوا على الخيار العلماني الليبرالي، وقد تنكبوا عن خط الحركات الإسلامية واتجهوا إلى الغرب يستوردون بضاعته الفكرية والسياسية، وهو احتمال يبدو ضعيفا للغاية بالنظر إلى العمر الزمني لقادة الحزب الجدد وهم في أغلبهم من الشباب المثقف المتعلم، وأيضا بالنظر إلى تاريخهم القريب، والذي يؤكد على تمسكهم بالإسلام، ومن الصعوبة بمكان تصور حدوث قرار مفاجئ لدى قادة العدالة والتنمية - والذين كانوا بمثابة جزء رئيس من الصف الأول والثاني والثالث من قادة حزب الرفاه والفضيلة الإسلاميين – بالتخلي عن الهوية الإسلامية ، وأن يتواطئوا جميعا على ذلك!.أما الاحتمال الآخر فهو أن الحزب ما زال يتمسك بالهوية الإسلامية وبالشعارات التقليدية للحركات الإسلامية، وأن كل ما حصل في عملية "إعادة الهيكلة الفكرية والسياسية" ما هو إلا تكتيك في إطار اللعبة السياسية الداخلية، وهذا الاحتمال يصطدم كذلك بكثير من الحقائق أبرزها البرنامج الانتخابي للحزب وتصريحات قادته ومؤتمراتهم الصحفية، بل وتأكيدهم أن الخيار الفكري والسياسي الحالي هو خيار استراتيجي لا رجعة عنه، وأنه تم بعد تفكير طويل وعميق من قبل مؤسسي الحزب. من هنا فإن هناك احتمالا ثالثا يبدو أقرب إلى الموضوعية في قراءة تجربة الحزب، ويبتعد بنا عن دائرة الجدل والاختلاف في الفواصل بين التكتيكي والاستراتيجي بين الردة السياسية والفكرية وبين البراغماتية العملية، ويقوم هذا الاحتمال على حصول تطور في تصورات قادة ومؤسسي الحزب أدى بهم بشكل طبيعي ومنطقي إلى هذه التوجهات الفكرية والسياسية ، وقد نبع جزء كبير من هذا التطور من عدة أمور أهمها رحم الخبرة التركية المعاصرة التي وضعت إطار الصراع - بين العلمانية والعسكر من جهة وبين المجتمع وهويته الإسلامية من جهة أخرى - محددا عاما لأفاق التجربة السياسية التركية . الأمر الثاني حالة العجز التي تنتاب الخطاب السياسي الإسلامي في كثير من الميادين وعدم قدرته على تقديم البدائل العملية المناسبة والتي تستند إلى الدراسات المعرفية بعيدا عن لغة الشعارات ، ومن الواضح من برنامج الحزب أنه يحمل رؤية سياسية واقتصادية عملية اجتهادية ، يغلب عليها الطابع الليبرالي نعم وإن كان هناك استدراكات عليه في البعد الاجتماعي ، بما يجعل أفكار الحزب أقرب إلى الليبرالية الأوروبية المعتدلة [ الرفاه الاجتماعي ] من الليبرالية الأمريكية المحضة . الأمر الثالث قد تكون هذه بالفعل رؤية الحزب للخيارات والبدائل للمشكلات الكبرى التي تعصف بتركيا ، والحزب أولا وأخيرا لم يطرح رؤى فكرية للحل الإسلامي الحضاري العام – ولم يزعم ذلك - وإنما طرح رؤية اجتهادية سياسية لمشكلات الواقع التركي وكيفية الخروج منها. فهو إن رأى أن الحل للأزمة الاقتصادية هو اللجوء إلى المؤسسات الدولية ومشاريع الخصخصة والهيكلة العامة للاقتصاد فإن هذه الرؤية لا تصلح بالضرورة لدول عربية أخرى . الاحتمال الثالث يضعنا أمام ملحوظة رئيسة وهي ضرورة قراءة تجربة العدالة والتنمية في إطار شروطها الموضوعية والذاتية، وعدم فصلها عن تلك الظروف، وبالتالي ينقلنا من الجدل في إمكانية تعميم أو استنساخ هذه التجربة في العالم العربي إلى محاولة استكشاف المجالات والفوائد التي يمكن الخروج فيها من تجربة الحزب القصيرة نسبيا إلى الآن.وأزعم في هذا السياق أن تجربة العدالة والتنمية على الرغم من قصر عمرها النسبي مليئة بالمجالات التي يمكن أن ترفد الحركات والقوى الإسلامية بالدروس اللازمة والمفيدة، التي يمكن أن تفيد منها هذه الحركات لتتجاوز حالة الجمود وربما الانتكاسات بسبب عجزها عن مواجهة التحولات والتطورات المختلفة التي تحيط بها.

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 6



الحركات الإسلامية وخصوصيات تجاربها في المشاركة السياسية
... عمر كوش ... الحياة



تختلف مشاركة الحركات الإسلامية في الحياة السياسية في البلدان العربية من بلد إلى آخر، كما تختلف طبيعة المشاركة وكيفيتها وحجمها. ويجمع كتاب «الإسلاميون والحكم في البلاد العربية وتركيا» أبحاث وأوراق الندوة الفكرية الأولى التي نظمها في جامعة القاضي عياض في مدينة مراكش المغربية يومي 16 و17 حزيران (يونيو) 2006 مركز الدراسات الدستورية والسياسية، وشارك فيها عدد من الأساتذة والباحثين والمهتمين بظاهرة الحركات الإسلامية في العالم العربي وتركيا.وترتكز أبحاث الكتاب إلى أسئلة كبرى، سعى الباحثون إلى دارستها والإجابة عليها، وتمحورت حول الأسس النظرية للمشاركة ومقاصدها السياسية، والكيفية التي تتصورها الحركات الإسلامية في علاقاتها مع الفاعلين السياسيين الذين يختلفون معها في المرجعية السياسية، وماهية حصيلة أداء الحركات التي توافرت لها شروط المشاركة من داخل البرلمان، أو من موقع المسؤولية الحكومية، وماهية العقبات وطبيعتها التي حالت دون إدراكها مقصد لها، وكيفية بناء نموذج عقلاني للمشاركة، يسعف الحركات الإسلامية في أن تصبح طرفاً فاعلاً في الحياة السياسية، يجنبها الإقصاء الذاتي والموضوعي حسب ما يذهب إليه الدكتور محمد المالكي.وعلى خلفية هذه الأسئلة، حاول عبد السلام الطويل قراءة المسار السياسي لحزب العدالة والتنمية المغربي، من خلال دراسة في المفاهيم الحاكمة للمشاركة السياسية، وتحديد حصيلة الأداء السياسي لـ «حزب العدالة والتنمية»، وبحث في موقف «حركة التوحيد والإصلاح»، من جملة القضايا المؤطرة لعملية المشاركة السياسية، كالموقف من الديموقراطية، والإصلاح الدستوري، والعلمانية أو العلاقة بين الدين والسياسة، ثم تتبع مسار المشاركة السياسية للإسلاميين المغاربة وأثر ذلك في المفاهيم التي يتبناها الحزب، من خلال عرض حصيلة العمل التشريعي والرقابي لحزب العدالة والتنمية.وقدم أحميدة النيفر قراءة في «تجربة حركة مجتمع السلم الجزائرية»، حيث عالج المحددات الفكرية والتنظيمية التي تمكّن من فهم التوجس الذي عبر عنه بعض المتخوفين من صدقية ما يرفعه الإسلاميون الراغبون في العمل الإسلامي والانخراط في اللعبة السياسية. وفي السياق ذاته ركّز الزبير عروس على أهم محطات المشاركة السياسية للإسلاميين الجزائريين، وتوقف عندما يعانيه التيار الإخواني في الجزائر من انقسامات تنظيمية، على رغم المصدر المعرفي الحركي الواحد والهدف المشترك. أما أعلية العلاني فاهتم بتأريخ ظهور الحركة الإسلامية وتطورها في تونس، مع التوقف عند تطور موقفها من المشاركة السياسية، وإظهار الظروف الذاتية والموضوعية التي دفعت حركة الاتجاه الإسلامي، «حركة النهضة حالياً، إلى المرواحة بين خيار المشاركة وبين إكراهات المواجهة مع النظام الحاكم.وأشار مصطفى عمر التير إلى أهمية الرجوع الى التاريخ في كل عملية تروم الفهم الواقعي للحركات الدينية، مرجعاً نشأة الحركة الدينية في ليبيا إلى القرن 19 من خلال ظهور السنوسية التي وجهت نشاطها لمقاومة الاستعمار. كما رصد مسار الجماعات الدينية المعاصرة، الإخوان والتجمع الإسلامي والجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية المقاتلة وسرايا المجاهدين، من خلال دراسة حالات بعينها، مظهراً تنوع الزعامات لأنصار هذه التنظيمات وأنشطتها وأصلها الاجتماعي.وحاول حيدر إبراهيم علي إظهار ما يميز الحركة الإسلامية السودانية عن بقية الحركات في العلم الإسلامي، كونها نشأت كجزء من الحركة المطالبة بالتحرر الوطني، علماً أن هناك نقاط اختلاف وتمايز بين صفوف الحركة قبل وصولها إلى السلطة السياسية، لكن تجربتها تعتبر اختباراً واقعياً لنظريات الإسلام السياسي، وموقفها من الديموقراطية وحقوق الإنسان وقبول الآخر وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.وفي خصوص الحالة اللبنانية، تناول عدنان السيد حسين تجربة حزب الله والجماعة الإسلامية، وبيّن تأثير ما يعانيه لبنان من تعدد طائفي ومذهبي فيهما، حيث لم تستطع الأحزاب والحركات الإسلامية أن تمنع نفسها من الاتصاف بالطائفية، وقد أثر هذا العامل كثيراً في انجازاتها وإخفاقاتها، وفي ما يواجهها من تحديات وأسئلة.وتتبع عمر كوش مسار المشاركة السياسية للحركة الإسلامية في سورية، حيث تناول مسار حركة «الإخوان المسلمون»، وتوقف عند آفاق المشاركة في الحراك الديموقراطي، سيما أن الإخوان المسلمين في سورية عبروا عن أنفسهم بالمشاركة في المؤسسات السياسية في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، من خلال الإسهام في التجربة الديموقراطية الجنينية التي توقفت عام 1958. أما حالياً فلا شك في أن الإخوان المسلمين يشكلون إحدى القوى السياسية المهمة المطالبة بعودة الحياة السياسية إلى طبيعتها، وإعادة السياسة إلى المجتمع السوري.وفي الحال الفلسطينية، تناول إبراهيم أبرش، حركة «حماس» والانتخابات الفلسطينية، مظهراً ما يميز الحالة الفلسطينية نتيجة خضوع الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، ما يجعل ما يسمى أحزاباً سياسية في الحقيقة فصائل مقاومة مسلحة ومكونات حركة تحرر وطني. وكان لهذا العامل أهمية كبيرة في قدرة «حماس» على تكييف برامجها المعلنة مع مشروع التسوية والالتزامات الدولية، ومدى استعداد حركة «حماس» لمبدأ تداول السلطة الذي هو جوهر الممارسة الديموقراطية. أما نبيل عبدالفتاح فقد اهتم بالمكانة السياسية المهمة التي أصبح يحتلها الإخوان المسلمون في مصر بعد الانتخابات النيابية عام 2005، التي خولت لهم الحصول على نسبة 21في المئة من المقاعد. ثم عرض رصيد الجماعة الذي دخلت به انتخابات 2005، إستراتيجيتها خلال هذا الاستحقاق الانتخابي، مستنتجاً أن قوة الإخوان المسلمين هي محصبة لتحول طويل. وفي السياق ذاته ذهب حسام تمام في تناوله تحولات الإخوان المسلمين، والكيفية التي أثرت بها المشاركة السياسية في حركة الإخوان، وركز على تماهي المشروع الإخواني في حدود الدولة الوطنية، وبروز روح إخوانية جديدة أساسها التكيف مع الواقع كما هو من دون السعي إلى تغييره، ثم اتساع القاعدة الاجتماعية للحركة، إذ أصبح مناضلوها من الطبقة البورجوازية المتدينة، وليس من الطبقات الاجتماعية المهشمة اجتماعياً وسياسياً.أما وفي التجربة التركية، فاهتم محمد خيري أوغلو، بالحركة الإسلامية السياسية التركية، من خلال تقويم حصيلة حزب العدالة والتنمية في تركيا، لكنه اعتبر الحركات الإسلامية التركية عموماً ردة فعل على النظام القائم الذي حاول خلق شعب معاصر وتقدمي بناء على اعتبارات علمانية لا على أساس هوية إسلامية. كما اعتبر تجربة الحركة بزعامة أربكان ناجحة على المستوى الاقتصادي وفي محاربة الرشوة مقارنة بفترة أردوغان. ومع تجربة حزب السعادة تبين أن هناك مجموعة من الانحرافات على المستويات الاقتصادي والاجتماعي والديني، في الشكل الذي أسهم في تراجع الحركة، لكن في المقابل حققت نجاحاً كبيراً على مستوى تسيير الجماعات المحلية. ولاحظ محمد العادل، في معرض رصده التجربة التركية من منظور آخر، أن هناك خصوصية تميز الحركة الإسلامية في تركيا، لأن واقعها نتاج تضحيات أجداد هذه الحركة منذ 1920، حيث كانت هناك حركات منذ فترات تاريخية مبكرة، ولكن تمت عملية إبادتها وقتل شيوخها بداية الثورة الكمالية. وما يميز هذه الحركات أنها كانت مستقلة، ولم تتأثر بالتيارات الإخوانية الخارجية، أي هي تيارات تركية أصيلة، كالحركة النقشبندية والحركة النورسية. ولم تتخذ مشاركة هذه الحركات في المؤسسات السياسية الطابع المباشر دائماً، بل كانت هناك أحزاب تتفاوض مع الطرق والحركات لدعمها، الأمر الذي سمح بوجود أفراد من هذه الحركات منذ سنوات الخمسينات من القرن العشرين في البرلمان، بالإضافة إلى ترشيح أعضاء بصفة مستقلة.لا شك في أن هذه الخصوصيات تنطوي في أهمية كبرى، كونها تساعد على فهم تركيبة الإسلاميين في تركيا. ومرت الحركات الإسلامية بمراحل تاريخية، جسدت تطورها، بدءاً من مرحلة حكم أتارتورك 1920- 1938 ومرحلة 1938 – 1950 اللتين عرفتا بروز مجموعة من الأحزاب، تميزتا بمواجهة بين الحركات الإسلامية والتيارات القومية، غلب فيهما طابع الحزب الواحد على المشهد السياسي. وشهدت الفترة الممتدة بين سنتي 1950 و1960 عودة الآذان إلى اللغة العربية وإعادة الاعتبار الى التعليم الديني، ثم ظهر حزب النظام الوطني خلال مرحلة 1965 - 1980، وشكّل خليطاً من الإسلاميين المتأثرين بحركة الإخوان وجماعة النور والجماعة النقشبندية، نتاجاً لبروز ثقافة التحالفات في ممارسة هذه الحركات. ثم عرفت فترة 1983 - 1993 تأسيس حزب الوطن الأم الذي حصل على أغلبية مقاعد البرلمان، وأسهم كثيراً في إعادة الاعتبار إلى التعليم الديني. وخلالها تنبهت الحركة الإسلامية إلى أهمية الاقتصاد، فتحولت إلى قوة اقتصادية، حيث ظهرت شركات مهمة تابعة للإسلاميين، ما منحهم الاستقرار. وقد استفاد حزب العدالة والتنمية من المراحل التي مرت بها الحركة الإسلامية تاريخياً، ومن أخطاء حكومة حزب الرفاه، ومن الأجواء الديموقراطية المتاحة في تركيا، ما سمح له بالنمو والتطور.في الختام اعتبر عبد الله تركماني أن تجربة حزب العدالة والتنمية التركي تشكل نموذجاً يستحق التأمل في العالم العربي، وبخاصة من تلك الأحزاب التي تبحث عن المزاوجة بين الإسلام والحداثة، كونها تقدم مثالاً حيّاً على إمكانية الجمع بين الإسلام والحداثة. وأرجع أسباب صعود الحركات الإسلامية في تركيا إلى وصول الشعب التركي إلى مرحلة كشف فيها «ضلال» النخبة العلمانية، وإلى تزامن صعود حزب العدالة والتنمية مع تنامي توحش العولمة وانخراط الشعب التركي في البحث عن ثقافته وهويته التي يشكل الإسلام جزءاً مهماً منها، خصوصاً أن العلمنة التركية منذ سنة 1923 لم تأت في سياق جدل داخلي، لكنها كانت عبارة عن «قشرة» ألصقت بالمجتمع التركي بعدما مورس العنف في فرضها. واستطاع حزب العدالة والتنمية أن يوظف مختلف التحولات السياسية والاجتماعية في تصوراته وبرامجه، فهناك انتقاد ذاتي داخل الحركة، ونزوح عن الكارزمية والزعامات، والإيمان بالعمل الجماعي، مع الاهتمام بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية.غير أن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من التجربة التركية تتلخص في كون النظام الديموقراطي السلمي هو القادر وحده على إحداث التغيير، فيما يظل الاعتقاد بامتلاك الحقيقة أمراً سلبياً وعائقاً ضد كل حراك ديموقراطي. ولعل هذه التجربة الناجحة تقدم للعرب درساً قوامه: ضرورة توفير فضاء ديموقراطي كفيل بخلق مناخ سياسي يتيح تنافساً سلمياً بين مختلف الفاعلين على تنوع توجهاتهم وأفكارهم.

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 5





«إسلاميون» و«علمانيون» في تركيا: الثنائية المعكوسة


بقلم د. عمرو الشوبكي ٣/٥/٠٠٧
ستظل التجربة التركية واحدة من أكثر التجارب في العالم الإسلامي إثارة للجدل، خاصة أنها شهدت تحولات كبري منذ إعلان الجمهورية التركية في عام ١٩٢٣، وإقامة نظام علماني متشدد استبعد القوي الإسلامية من المجال العام، ومعها استبعدت كل القوي السياسية لمدة تجاوزت العقدين، حتي عام ١٩٤٦ حين شهدت البلاد بداية نظام التعددية الحزبية.
ومنذ ذلك التاريخ عرفت تركيا صراعا سياسيا واضح المعالم بين القوي العلمانية المدعومة من المؤسسة العسكرية وبين التيارات الإسلامية أو ذات المسحة الإسلامية، استمر عقوداً طويلة وعرف كثيراً من العنف والقسوة، وتدخلت المؤسسة العسكرية أكثر من مرة من أجل الحفاظ علي النظام العلماني ومبادئ كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية في مواجهة ما سمي «التهديدات الإسلامية».
وقد كرس الدستور الأول للجمهورية التركية في عام ١٩٢٤، حكم الحزب الواحد لمدة عقدين من الزمن حكم فيها حزب أتاتورك «الشعب الجمهوري» بصورة شمولية، إلي أن تأسس الحزب الديمقراطي وحكم مرات متتالية، ثم انتهي أمره بانقلاب عسكري في ٢٧ مايو ١٩٦١ حكم فيه علي رئيس الجمهورية جلال بايار ورئيس الحكومة عدنان مندرس ورئيس المجلس النيابي رفيق كولتان بالإعدام بعد أن اتهموا بأسلمة الدولة وتهديد مبادئ أتاتورك ونظامه العلماني، رغم أنهم كانوا منفتحين بقدر معقول علي الإسلام الثقافي، ولم ينتموا إلي تيارات الإسلام السياسي.
وجاء دستور ١٩٨٢ ـ وهو المطبق حتي الآن ـ ليفتح الباب أمام التعددية الحزبية، ويطلق مساحة من حرية الرأي والتعبير بين القوي والأحزاب العلمانية أساسا، ولكنه فتح الباب أمام العودة الثانية لنجم دين أربكان «أبو الحركة الإسلامية التركية»، والذي قام بتأسيس حزب الرفاه عام ١٩٨٣ عوضا عن حزبي النظام الوطني والسلامة الوطني الذي سبق أن أسسهما في عامي ١٩٧٠ و١٩٧٢ علي التوالي وتم حلهما.
وقد تضمنت مقدمة هذا الدستور أن مصطفي كمال أتاتورك «البطل الخالد» الذي أخرج تركيا من نظام الخلافة إلي نظام الجمهورية، وتقرر المادة الثانية من الدستور أن تركيا جمهورية علمانية تدين بالولاء للقومية الأتاتوركية، وعلي هذا الأساس تم حل حزب الرفاه عام ١٩٩٨، وحُظر العمل السياسي علي رئيسه نجم الدين أربكان مدة خمس سنوات، باعتباره هدد النظام العلماني،

ومن بعده جري حل حزب الفضيلة الذي انتهي به الأمر مقسماً إلي حزبين: حزب السعادة الذي يقوده الآن نجمد الدين أربكان وحصل في الانتخابات الأخيرة علي أقل من ٣%، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة الحالي، والذي حوكم أيضاً علي خطاب ألقاه في تجمع سياسي أشار فيه إلي «قوة الإيمان والمؤمنين»،

















واعتبر ذلك تحريضا علي النظام العلماني وخلطاً للدين بالسياسة، والمؤكد أن التحول الحقيقي في المعادلة العلمانية/الإسلامية قد بدأ بعد فشل تجربة نجم الدين أربكان عقب وصوله إلي الحكم عام ١٩٩٥، وقيام الجيش بإجباره علي الاستقالة عام ١٩٩٨ فيما عرف باسم الانقلاب الأبيض، حيث يمكن وصف هذه المواجهة بأنها كانت بين مشروع لديه توجهات إسلامية ديمقراطية يعبر عنه أربكان، وآخر علماني لا يقبل بوجود أي مشروع إسلامي ولو معتدل داخل النظام السياسي التركي.
والمؤكد أن مشروع أربكان حمل بعض جوانب مشروع الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي، ولكن في ظل واقع سياسي وثقافي مختلف تماما عن الواقع العربي، فالحالة التركية تحكمها قواعد محددة تتسم بالصرامة الشديدة، وتدفع أي تيار سياسي بما فيه التيار الإسلامي إلي ضرورة احترامها، علي عكس الحالة المصرية التي تتسم بالفوضي الهائلة، ولا تطالب أي تيار سياسي بالالتزام بأي قواعد قانونية ودستورية،
إنما المطلوب منه فقط أن يكون ضعيفا وباهتا حتي يمكنه الاستمرار في المعادلة السياسية، ولذا سنجد أن مشكلة الإخوان مع النظام المصري لم تكن بسبب أنهم تيار إسلامي، ولكن بسبب قوتهم التنظيمية والسياسية، خاصة أن الحكومة وحزبها الحاكم يوظفان الدين في المجال العام بصورة أكبر من التيارات الإسلامية، وهذا علي عكس التجربة التركية التي اتسمت قواها العلمانية بالاتساق مع النفس رغم تطرف مشروعها وأخطائه الكثيرة.
ومنذ فشل مشروع أربكان بسبب عدم واقعيته وعجزه عن الهروب من الثنائية العلمانية/الإسلامية في تركيا، جاءت تجربة «جيل الوسط» بقيادة رجب طيب أردوجان، الذي انشق عن حزب أربكان وأسس حزب العدالة والتنمية الذي أخذ علي عاتقه مهمة بناء حزب جديد يختلف في رؤيته الفكرية والسياسية عن تلك التي قامت عليها كل الأحزاب الإسلامية في تركيا، ويبدأ في تأسيس مرحلة جديدة سعت عمليا إلي أن تكسر ثنائية العلمانية/الإسلام في تركيا الحديثة.
واتضحت ملامح هذه المرحلة الجديدة عقب الانتصار الكاسح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر ٢٠٠٢، وأعلن أنه لا يرغب في تأسيس نظام إسلامي، ولم يصنف نفسه من الأساس باعتباره حزب «إسلامي ديمقراطي» كما فعل أربكان، إنما تيار «محافظ ديمقراطي»، وأعلن تمسكه بالعلمانية، ولكنه طالب بأن تكون علمانية علي الطريقة الأوربية وليست كمالية ـ نسبة لكمال أتاتورك ـ أي تفصل بين الدين والدولة، ولا تتدخل الثانية في أمور الأولي، كما تفعل العلمانية التركية التي قامت فيها الدولة بقهر المؤسسات الدينية.
وربط حزب العدالة والتنمية القيم الإسلامية بـ «المحلية التركية»، وصار الحديث عن الثقافة والخصوصية التركية مرادفاً ولو ضمنا للحديث عن القيم الإسلامية، دون أن يتبني تطبيق الشريعة الإسلامية، معتبرا أنه «حين توجد مصلحة الناس يوجد شرع الله».
وسعي حزب أردوجان في الواقع العملي إلي بناء نظام سياسي ينزع من علمانيته هذا الجانب المحارب والأيديولوجي المغلق، الذي عرفته طوال عقود طويلة، وأدت في النهاية إلي جعل خطاب القوي العلمانية في تركيا مرادفاً للانغلاق السياسي والتعصب القومي والعداء لأوروبا والعرب والكرد، وبدا أردوجان في صورة العلماني الإصلاحي الذي يواجه علمانية مغلقة، وليس الإسلامي الذي يواجه العلمانية الديمقراطية، وعزز من قدراته أن حكومته حققت إنجازات اقتصادية هائلة في السنوات الخمس الأخيرة، وأجرت إصلاحات سياسية عميقة في مجال الحريات العامة وحقوق الأقليات.
وعلي عكس ما يتصور البعض، بسطحية شديدة، أن تجربة حزب العدالة والتنمية هي تجربة إسلامية تهدد المبادئ العلمانية والديمقراطية في تركيا، فإن الصحيح أن هذه التجربة هي الأكثر تعبيرا عن «العلمانية المحايدة» وليس «العلمانية الأيديولوجية» المنغلقة، وهي الأكثر ليبرالية وانفتاحا علي المعايير الأوروبية بصورة وضعتها لأول مرة علي أبواب الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي.



والمؤكد أن إنجازات هذه الحكومة علي أرض الواقع ستجعل من مسألة قيام الجيش بانقلاب عسكري أمراً شبه مستحيل، ولكنه سيظل يتحرك كجماعة ضغط وكحارس للنظام العلماني، والمؤكد أن حزب العدالة والتنمية ومعه الكثير من التيارات العلمانية داخل المؤسسة العسكرية وخارجها يرغبون في تجاوز هذه العلمانية الاستئصالية، لا هدم النظام العلماني، ولا القضاء علي مدنية الدولة

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 4


عدالة التركي.. تجاوز أم تطور؟

إسلام "راحة البال والسكينة"

د.عمرو الشوبكي
** 16/05/2004
مثلت تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا بداية مرحلة جديدة في تطور حركات الإسلام السياسي، اعتبرها البعض بداية عصر جديد، نجح فيه تيار -ينتمي تاريخيا إلى تيارات الإسلام السياسي- في إحداث توافق بين الإسلام، وليس فقط الديمقراطية، إنما أيضا العلمانية بمعناها الأوربي.
والحقيقة أن تجربة "العدالة والتنمية" تجربة استثنائية في تاريخ الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، تماما مثل السياق العلماني الذي نمت في إطاره، وأدى إلى ما يمكن تسميته "خصوصية الحالة التركية" التي أدت إلى طرح تساؤلات عديدة حول هذا الإسلام التركي، وهل يمكن اعتبار حزب العدالة والتنمية حاليا حزبا إسلاميا بالمعنى الأيديولوجي الذي اعتدنا أن نتحدث به عن حركات الإسلام السياسي، أم أنه حزب مدني علماني ذو أيديولوجية "محافظة" كما يعرفه قادته، أو أخيرا هو حزب إسلامي استخدم "تكتيكات" علمانية لن تحيده عن هدفه الإستراتيجي، وهو بناء دولة إسلامية على أرض الخلافة العثمانية.
والحقيقة أن هذه الفرضيات عكست جانبا من الواقع، وليس الواقع كله؛ فالسؤال المطروح لا يكمن فقط في تحليل التوجه الأيديولوجي الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية ولا في التفتيش في نوايا قادته لمعرفة ما إذا كانوا علمانيين حقا أم لا، إنما في معرفة السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي ساهم في هذه التحولات التي أدت بهذا الحزب إلى أن يصبح حزبا مدنيا، ويضع كلمة "محافظ" محل "إسلامي" في تطور بدا جديدا في تاريخ الأحزاب الإسلامية.
ولعل أهمية دراسة هذا السياق تكمن في أنه نجح، ليس فقط في تبني الحزب لمبادئ الديمقراطية والعلمانية، وإنما في أن يصبح حزبا سياسيا، تحكمه تفاعلات الواقع ومصالح المواطنين وتوازنات القوة داخل تركيا وخارجها، وليس فقط إطاره الأيديولوجي ومرجعيته الفكرية. وقد مرت رحلة قادة الحزب بتحولات كثيرة؛ فقد كانوا جزءا من حزب أربكان "الرفاه"، ثم انشقوا عنه وكونوا حزبهم الجديد الذي حقق انتصارا كبيرا في الانتخابات التشريعية التي جرت منذ ثلاثة أعوام، والانتخابات البلدية التي جرت هذا العام.
حزب الرفاه.. انفتاح دون ذوبان
أسس نجم الدين أربكان (رئيس وزراء تركيا الأسبق) حزب "الرفاه" الإسلامي الذي تحول إلى حزب "الفضيلة"، ثم استقر أخيرا على اسم حزب "السعادة"، الذي لا يمتلك تمثيلا في البرلمان، ولم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها 2,5%. أما حزب العدالة والتنمية تحت زعامة رجب طيب أردوغان فهو الصيغة الثانية التي انشقت عن الرفاه، ونجحت في بناء مشروع حزب سياسي مدني، اعتبر أن إطاره الفكري هو إطار محافظ يمزج بين الحداثة والتراث، ويحمل موقفا إيجابيا من التاريخ الإسلامي، دون أن يتقاطع مع الخطاب الإسلامي التقليدي السائد في العالم العربي.
والحقيقة.. فإنه من الصعب تحليل مشروع حزب العدالة والتنمية دون فهم خبرة حزب الرفاه، الذي تأسس في 19 يوليو عام 1983 كامتداد لحزب "السلامة الوطني" الذي ألغاه العسكريون في 16 أكتوبر عام 1981.
وقد تميز حزب الرفاه عن سابقه "حزب السلامة الوطني" بعدد من الخصائص، عكست قدرته على تطوير مؤسساته وخبراته التنظيمية والتعبوية في إدارة العمل السياسي، سواء كحزب سياسي معارض، أو كطرف في ائتلاف حاكم؛ حيث لم تقتصر عضويته على التجار القرويين ممن أضرهم سياسات التحديث، أو أعضاء الطرق الدينية الممنوعة فحسب، وإنما امتدت لتشمل فئات أخرى؛ كالفئات المهمشة اقتصاديا من التجار الصغار والموظفين والطلبة، والتي نقلتها سياسات الانفتاح الاقتصادية في عهد الرئيس التركي السابق تورجت أوزال من الريف إلى المدينة، وأصبحت تصبو إلى قدر أكبر من الحراك الاجتماعي، وعادة ما كانت تمثل كتلة تصويتية لصالح الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. هذا إلى جانب فئة رجال الأعمال والصناعة ذات الجذور القروية، التي كانت سياسة الإنتاج للتصدير التي تبناها الرئيس الراحل إبان الثمانينيات قد أدت إلى ازدهارها.
وقد وجدت هذه الفئة في مبادئ حزب الرفاه تأكيدا على قيمها التقليدية وهويتها الدينية الإسلامية. ولذا كونت تلك الفئة -التي سمت نفسها "أسود الأناضول" لتميز نفسها عن فئة رجال الأعمال المتغربة والمتمثلة في منظمة "توسياد" (أو الجمعية التركية لرجال الصناعة والأعمال)- منظمة "موسياد" التي ضمت فئة رجال الأعمال والصناعة ذوي التوجه الإسلامي.
هذا إلى جانب أن السياسات التعليمية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة وأقرها الجيش خلال فترة الثمانينيات، والتي كانت تقضي بإعادة تدريس مقررات الدين الإسلامي في المدارس كإحدى الآليات الرادعة لظهور حركات إسلامية متطرفة أدت إلى انتشار قدر أكبر من الوعي والتأييد للتيار الإسلامي، متمثلا في حزب الرفاه.
وقد مثلت كثير من المواقف السياسية لحزب الرفاه امتدادا للكثير من المبادئ التي قام عليها حزب السلامة الوطني؛ من حيث انتقاد الدولة العلمانية في تركيا وما تتبناه من سياسات "نابعة من عقلية المحاكاة للغرب ذي الثقافة المتعارضة مع القيم التركية، وموقفه الخاص برفض انضمام تركيا إلى المجموعة الأوربية لتهديد ذلك لمصالح تركيا الحقيقية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والدعوة إلى انضمام تركيا كدولة قائدة إلى مجموعة إسلامية جديدة تضم بلدان العالم الإسلامي كافة في إطار منظمة للتعاون الدفاعي، وأخرى للتعاون الثقافي، وسوق إسلامية واحدة وعملة واحدة يتم تداولها في العالم الإسلامي".
على أن النجاحات المتتالية التي حققها الحزب بحصوله على نسبة متقدمة في الانتخابات البرلمانية منها والبلدية، ودخوله في ائتلافات حاكمة مع أحزاب من جميع ألوان الطيف السياسي في تركيا، وإدراك قيادات الحزب بشكل أكثر من ذي قبل بالواقع السياسي التركي ومتطلباته؛ هذا بالإضافة إلى اتساع وتنوع قاعدته الانتخابية وانطوائه على كوادر قيادية تتنوع فيها المشارب السياسية ما بين ليبرالي ومحافظ وراديكالي.. كل هذه العناصر أدت إلى إضفاء طابع أكثر براجماتية ومرونة على المواقف السياسية للحزب.
وإذا كان من المؤكد أن تجربة حزب الرفاه قد تميزت عن تجارب معظم حركات الإسلام السياسي السلمي في العالمين العربي والإسلامي من زاوية انفتاحها السياسي وتبينها الكامل لقواعد وقيم الديمقراطية؛ فإنه من المؤكد أنها ظلت حريصة على التمسك بثوابت ما يمكن تسميته بخطاب حركات الإسلام السياسي، القائم على المواجهة الأيديولوجية والثقافية مع الغرب، وعلى التمسك بمفهوم "النموذج القيمي البديل" القائم على بناء مشروع حضاري يستمد قيمه الثقافية والسياسية من الإسلام، ويختلف بالتالي عن النموذج الغربي.
ولعل هذا ما جعل حزب الرفاه يطالب في برنامجه في انتخابات عام 1995 إلى "تمزيق" الاتفاق الجمركي مع الاتحاد الأوربي، وإقامة اتفاق بدلا منه مع الدول الإسلامية، وإنشاء هيئة أمم خاصة بالعالم الإسلامي، بجانب بعض التصريحات المتناثرة التي تؤكد على ضرورة دعم نضال الشعب الفلسطيني.
وإذا كان من المؤكد أن حزب الرفاه لم يستطع أن ينفذ معظم ما جاء في برنامجه الانتخابي، نتيجة ظروف محلية وإقليمية ودولية؛ فمن المؤكد أن تجربة الرفاه في تركيا قد أثبتت -بصورة عملية- أن هناك صعوبة واقعية في تطبيق البرنامج الإسلامي في صورته المعتدلة والديمقراطية التي قدمها حزب أربكان، وكان ذلك بداية ميلاد مرحلة جديدة خرج على أثرها حزب العدالة والتنمية كحزب لا يعلن أنه حزب إسلامي، ويتبنى في الوقت نفسه خطابا لا يمكن وضعه بأي صورة مع خطاب الحركات الإسلامية السلمية؛ سواء في طبعتها التركية (حزب السعادة) أو العربية (الإخوان المسلمون).
"العدالة والتنمية" يتجاوز الخطاب الإسلامي
تجاوز حزب العدالة والتنمية هذا التوجه الذي سعى في تركيا إلى إلباس المبادئ الإسلامية حلة قومية، تأخذ في اعتبارها الخصوصية التركية، من حيث الثقافة ومن حيث المصلحة السياسية على حد سواء؛ وهو ما جعله يؤيد الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ويحرص على الحفاظ على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، وينسج خطابا ولغة سياسية تعمل على الاندماج في المشروع الأوربي بكل ما يمثله من منظومة قيم سياسية وثقافية واجتماعية؛ بل ويعتبر نجاح تركيا في تطابقها مع المعايير الأوربية في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية والنمو الاقتصادي هو دليل تقدمها وتطورها الاقتصادي والسياسي.
وقد تخلى الحزب في هذا الإطار عن مرجعيته الإسلامية، واعتبر نفسه حزبا ديمقراطيا محافظا يؤمن بالعلمانية، ولا ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية؛ بل اعتبر زعيمه رجب طيب أردوغان أن الشريعة يمكن النظر إليها على أنها نوع من النظام فحسب، وبينما من الممكن أن ينظر لهذا النظام باعتباره نظاما قانونيا، كما أنه من الممكن أن ينظر إليه بوصفه نمط حياة يتبعه كل فرد في حياته الخاصة، أو بكونه تعبيرا عن نظام اجتماعي عادل يعيش فيه الجميع في حالة من "راحة البال والسكينة"، وهو التعريف الذي يتبناه أردوغان، والذي يعكسه اسم الحزب الذي قام بتأسيسه (العدالة والتنمية).
ومن هنا لم يكن غريبا أن يصبح الحزب الجديد أكثر أوربية، وأكثر تفاعلا مع القيم الغربية في الديمقراطية واحترام حقوق إنسان من المؤسسة العسكرية الكمالية التي يفترض أنها حامية العلمانية التركية. ومن هنا نادى الحزب بالعلمانية بمعناها الأوربي وليس العلمانية الكمالية. ففي حديث أجرته Jenny White مع أردوغان إبان رئاسته لبلدية إستانبول عبر الأخير عن أنه "يفضل النظام العلماني الذي يمنح لكل فرد الحق في ممارسة نمط الحياة الذي يريده، سواء أكان إسلاميا أم غير ذلك، عن الكمالية التي هي ديانة بحد ذاتها، ولا تقر العديد من الحريات الشخصية للأفراد تحت لوائها، كحق المرأة في ارتداء الحجاب، على سبيل المثال.
ومن هنا.. بدت المؤسسة العلمانية التركية في وضع أكثر محافظة بكثير من نظيرتها ذات الأصول الإسلامية في الموقف من الانضمام للاتحاد الأوربي، ومن تبني الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان التي كثيرا ما اعتبرها الإسلاميون "بضاعة غربية". ولعل أبرز نقلة قدمتها نخبة حزب العدالة والتنمية في تركيا أنها بدت أكثر ليبرالية وانفتاحا على الغرب من نظيرتها الكمالية، ولكنه انفتاح غير الذي عرفناه في مصر؛ حيث يتميز بالقدرة على صياغة مساحة من التفاعل النقدي مع المنظومة الأوربية من خلال الاندماج فيها وليس العزلة عنها كما يطرح أغلب الإسلاميين، وفي نفس الوقت وعت أن اندماجها في هذه المنظومة سيعني بالتأكيد الدخول في تحدٍّ حقيقي من أجل التطوير الداخلي على المستوى الاقتصادي والسياسي.
وهنا يمكن القول بأن العدالة والتنمية أحدث قطيعة مع الخطاب الإسلامي السلمي، وقدم خطابا فكريا وسياسيا جديدا، قائما من ناحية على تجاوز مفاهيم الصراع الحضاري، والتآمر الصليبي والدولي على الإسلام لصالح الاندماج النقدي في منظومة القيم العالمية (ديمقراطية واحترام حقوق الإنسان واقتصاديات السوق)، ويقدم من ناحية أخرى خطابا سياسيا مندمجا في الواقع، ويتجاوز الخطاب الجهادي الكلي الذي تردده بعض حركات الإسلام السياسي بمعزل عن أدنى تفاعل مع الواقع المعيش.
وهنا ربما يبرز موقف حكومة العدالة والتنمية من دخول القوات الأمريكية الأراضي التركية لغزو العراق العام الماضي؛ فقد عبر عن الترجمة الديمقراطية والعصرية لموقف، ربما أيدبولوجي أوعقيدي، رافض أن تعبر الولايات المتحدة الأراضي التركية لضرب جار مسلم. ولو كان هذا الجار يحكمه نظام لديه حد أدنى من الشعبية والكفاءة لكان نجح في الصمود أمام الغزو الأمريكي، ولكان للموقف التركي أثر كبير في مسار الحرب.
تزاوج "العقائدي" و"السياسي"
والحقيقة أن التطور الذي حدث في التجربة التركية يكمن في وجود مساحة حقيقية للصراع الديمقراطي؛ صحيح أنها ما زالت محكومة بقيود المؤسسة العسكرية الكمالية، كما أنها ما زالت تعاني من ثغرات كبيرة فيما يتعلق بحقوق القوميات الأخرى، إلا أنها في النهاية نجحت في أن تحول الأفكار الأيديولوجية الكبرى -سواء التي انطلقت من مفاهيم إسلامية أو علمانية- إلى ساحة "للنضالات الصغرى" القائمة على المكاسب الجزئية، وعدم إقصاء أي طرف من المعادلة السياسية، والاعتراف بحق التيارات المختلفة في التعبير، وأخيرا مواجهة الولايات المتحدة أو الاختلاف معها في الواقع وليس بالشعارات، وهو ما لن يتحقق إلا في ظل نظام ذي منطلقات شعبية وديمقراطية.
وهنا.. هل يرجع نجاح حزب العدالة والتنمية واستمراره في الحكم إلى تخليه عن خطابه الأيديولوجي الإسلامي؟ (بما يعني أن المشكلة كانت أساسا في هذا الخطاب الأيديولوجي) أم أن نجاحه يرجع لكونه قدم مراجعة شاملة لأفكاره، ونجاحه في أن يتجاوز الصورة الأولى التي ظهر عليها أسلافه في ظل الأتاتوركية العسكرية؟ أم لكون تركيا نجحت في بناء نموذج يمتلك "مصفاة" سياسية، تحمل نظاما تعدديا قادرا على تحويل الكلي إلى جزئي، وإلى "تهذيب" الأيديولوجيا وتحويلها من لغة مطلقات كلية -تردد كالأناشيد دون أي دلالة واقعية- إلى حساسيات فكرية نحو منظومة محددة من القيم والأفكار؟
والحقيقة أن ما قدمه العدالة والتنمية لا يعكس نهاية أو موتا للإسلام السياسي، بقدر ما يعني نهاية لكل الأنماط الأيديولوجية التي اهتمت بالنص وتجاهلت السياق، وراهنت على الأفكار الكبرى دون أن تمتلك وسيلة واحدة لتطبيقها. فنجاح الحزب الجديد يعكس نجاحا أكبر على إحداث هذا التزاوج بين العقيدي والواقعي، وامتلاك قنوات التفاعل المطلوبة بينهما التي تساعد قادة الحزب على تطوير بل وتجاوز كثير من الأفكار العقائدية استجابة للواقع.
وسواء كانت هذه الأيديولوجية النصية قومية أو إسلامية أو ماركسية؛ فإن نتيجتها حتما هي الفشل، وأن نجاح العدالة والتنمية يرجع إلى نجاح هذا الفهم الجديد للعلاقة بين العقائدي -أيًّا كان مضمونه- والعملي والسياسي. والحقيقة أن الدلالة الكبرى لتجربة "المحافظين الديمقراطيين" في تركيا تكمن أساسا في أن تخليهم عن خطاب حركات الإسلام السياسي عكس قدرة عملية على الاستجابة الصحية للواقع ولمصالح الشعب التركي، كما أنه لم يعن أن النسق المحافظ الجديد خال من بعض الحساسيات الأيديولوجية، ولكنها ليست كتلك التي نرددها في العالم العربي؛ لأنها منعزلة عن الواقع وحسابات المكسب والخسارة.

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 3



العدالة التركي.. تجاوز أم تطور؟
الغنوشي يقرأ في تجربة "العدالة والتنمية
"

الشيخ راشد الغنوشي
** 16/05/2004
من جهة الجغرافيا هي بلد يمتد بين قارتين، رغم أن معظمه يقع في آسيا، وهو ما اتخذه الرئيس الفرنسي السابق تعلة لتأسيس رفض انتمائه إلى أوربا، بل اعتبر انتماءه للاتحاد بمثابة الإجهاز عليه.
من جهة النظام السياسي هي بلد ديمقراطي، بل لعلها أقدم ديمقراطية في المنطقة، إذ ظلت صناديق الاقتراع تفرز برلمانات وحكومات، من دون أن يشكك أحد في مصداقيتها، مما هو غريب في دول حديثة مشابهة من جهة تاريخ العلاقة بالحداثة، مثل مصر وتونس. ومع ذلك فالبلد تداولت عليه فترات الديمقراطية والانقلابات العسكرية. وكان آخرها انقلاب 1980 الذي وضع حداً أو أراد لفوضى الاقتتال بين الجماعات القومية واليسارية، كما أراد أن يضع حداً لصعود الإسلاميين.
تركيا بحق بلد المتناقضات والألوان المختلطة
ولم يعد الجيش إلى ثكناته إلا بعد أن أعاد ترتيب الحياة السياسية، وضبط الهيكل العام للدولة على نحو يجعل للمؤسسة العسكرية سلطة الرقابة على سير العملية الديمقراطية، ومدى انضباطها بالإطار العلماني للدولة، وبجملة الاختيارات الكبرى الاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية، وذلك عبر سلطة مجلس الأمن القومي، الذي بلغ سلطانه حد طرده رئيس وزراء منتخب، بل وإيقاف العملية الديمقراطية ذاتها، وحل الأحزاب، والزج برؤسائها في السجون، من أجل إعادة ترتيب الأوضاع بما جعل العسكر هم الدولة في المحصلة النهائية (انظر مقال محمد نور الدين في مجلة «المستقبل العربي» عدد يناير 2003). ولذلك كان من غرائب تركيا هذا التعايش الحذر بين العسكر والديمقراطية.
من جهة الثقافة تركيا بلد القطائع والمتناقضات الشديدة فقد حولها انقلاب النخبة المتغربة (نخبة جماعة الدونمة أي اليهود المتأسلمين بعد طردهم من الأندلس، والتجائهم إلى حاضرة الخلافة) بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، من عاصمة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، عبر القارات الثلاث، إلى دولة قومية شوفينية، في تعصبها للعنصر التركي، وعلمانية متطرفة حاربت الإسلام بكل ما ملكت من وسائل، وراهنت على استبدال الهوية الإسلامية العثمانية بهوية قومية علمانية أوربية، عبر حملة شاملة على كل مؤسسات الإسلام التعليمية والوقفية والشعائرية بل التشريعية والدولية.
لقد غيّرت الدولة قبلتها بالكامل، ولم تدخر جهداً في حمل الشعب على ذلك، رغم أن تجربة ثلاثة أرباع قرن أثبتت أن تغيير هويّات الشعوب أمر بالغ العسر، بسبب ما أبداه الشعب من مقاومة متعددة الأشكال، كان من بينها صعود حزب من داخل النخبة العلمانية العسكرية في الخمسينات، بقيادة عدنان مندريس، فتح ثغرة محدودة في جدار العلمانية المتطرفة في عدائها للإسلام، التي أرساها مؤسس الجمهورية.
وتتمثل هذه الثغرة البسيطة في الاتجاه إلى الاعتراف بالهوية الإسلامية لتركيا، عبر السماح بأداء الأذان بالعربية، ما جعل الناس يخرون سجداً ويبكون فرحاً، وكذا الإذن بفتح معاهد لتخريج الأئمة والخطباء.
ورغم أن هذه السياسة لم تستمر أطول من الفترة بين 1950 و1960، إذ تم التصدي لها بكل عنف، من قبل حراس المعبد العلماني، الذين انقلبوا على الديمقراطية، بعد أن كانوا قد بدءوا بالانقلاب على الإسلام، فعلّقوا رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس، ورئيس الجمهورية جلال بايار على المشنقة...
وبعد أن أعادوا ترتيب الأوضاع، وبضغط من الشركاء الأوربيين، من أجل التحقق بقدر من الانسجام مع الوجه الأوربي، الذي تحرص عليه النخبة، أو المفروض عليها، تمت العودة إلى الديمقراطية، غير أنها أفرزت مرة أخرى حزباً علمانياً معتدلاً بزعامة شخصية معتدلة قريبة من الجماعات الصوفية هو سليمان ديميريل، الذي استأنف على نحو ما سياسة مندريس من جهة السماح بالممارسة الدينية، وهو نفسه كان معروفاً بأداء الصلاة.
وفي عهده استأنفت الحركة الإسلامية بزعامة البروفسور نجم الدين أربكان عملها، ضمن حزب جديد هو حزب السلامة الوطني، بعد أن حل سابقه، بل إنه ضمن صراعات اليمين واليسار وتشتت الأحزاب، أمكن لأربكان أن يتحالف مع مختلف الأحزاب العلمانية لتشكيل الحكومة مرة مع اليسار بزعامة أجاويد، رئيساً للوزراء، ومرتين مع حزب العدالة بزعامة ديميريل.
وقدمت هذه التحالفات الغطاء السياسي الضروري لنمو بنية تحتية قوية للإسلام، تتمثل في سلسلة واسعة من المدارس الثانوية والابتدائية لتخريج الأئمة والخطباء، استقبلتهم كليات للشريعة لمواصلة تعلمهم ثم انفتحت في وجوههم مختلف أبواب الاختصاصات، وفك الحصار عن المساجد والتدين عامة. غير أنه أمام صعود الإسلاميين وتفاقم الصدام العنيف بين المتطرفين من اليمين واليسار، تدخلت المؤسسة العسكرية الوصي على تراث أتاتورك لتضع حداً لصعود الإسلاميين المتفاقم مع اندلاع الثورة الإيرانية، من جهة، وللفوضى من جهة أخرى. ولم تعد إلى ثكناتها إلا بعد أن وضعت الوثيقة الدستورية الرابعة، التي نصبّت المؤسسة العسكرية عبر مجلس الأمن القومي حارساً ووصياً على تراث أتاتورك، كما سبق، وتسلم تورغت أوزال رئاسة الوزراء، فلم يلبث أن عاد إلى تراث مندريس في سعي لمصالحة تركيا الحديثة مع هويتها الإسلامية بالتليين من تصلب علمانية أتاتورك في عدائها للإسلام.
وتفاعلت عوامل خارجية من مثل عودة الحركة الإسلامية في صيغة حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان، وفشوّ الفساد وسط النخبة العلمانية للأحزاب، وتعطش الشعب للهوية، والأزمة الاقتصادية، واستمرار انغلاق البوابة الأوربية في وجه تركيا، وانتشار الكتاب الإسلامي بفعل الترجمات السريعة لكل ما ينشر في العالم الإسلامي، ولا سيما من قبل كتّاب الحركة الإسلامية في تيارها الوسطي، تفاعلت كلها لتعزيز جانب المد الإسلامي، وتعاظم حتى وضع حزب «الرفاه» على رأس الأحزاب التركية بنسبة فاقت 22% من أصوات الناخبين، فأمكن لما يسمى الإسلام السياسي أو الحركة الإسلامية تشكيل الحكومة لأول مرة في تاريخ الدولة التركية الحديثة، متحالفاً مرة أخرى مع حزب علماني محافظ، تتزعمه سيدة هي تانسو تشيلر، وذلك سنة 1996.
غير أن حراس المعبد العلماني قد استنفروا مصممين على الإطاحة بأربكان وحزبه، رغم كل التنازلات، التي قدمها للتواؤم مع شعائر المعبد، من مثل الوقوف على قبر أتاتورك، وأداء التحية له، واستقبال مسئولين إسرائيليين، والمحافظة على الارتباطات الأطلسية والأوربية. ولكنهم نقموا عليه جسوراً قوية مدها مع الجوار العربي والعالم الإسلامي عامة، بمبادرته بزيارة عدد من الأقطار العربية والإسلامية (ليبيا ومصر وإيران)، وعمل على تأسيس نادي الثمانية G8 للدول الإسلامية الكبرى، مقابل نادي السبعة للدول الرأسمالية الكبرى G7. واستضاف في رمضان رموز الصوفية والأئمة الكبار.
ورغم أن أداءه الاقتصادي كان عظيماً في النزول بالتضخم والبطالة والتداين الخارجي إلى أدنى نسبة، بالقياس إلى الحكومات السابقة. ورغم الأداء المتميز غير المسبوق للبلديات، التي تديرها جماعة الرفاه، إلا أن ذلك وبقدر ما رفع مكانة الإسلاميين لدى الشعب، بقدر ما رفع مستوى نقمة الباب العالي (الهيأة العليا لرجال الأعمال والصحافة وقادة العسكر)، فصعّدوا الضغط عليه حتى حملوه على الاستقالة، وحركوا أداة أخرى من أدوات سيطرتهم (المحكمة العليا) فحلت حزباً في أوج عطائه، بنفس الاتهام الثقافي المعتاد: النيل من هوية الدولة العلمانية. وشنت على التيار الإسلامي ما يشبه حرب إبادة، وذلك على إثر ما استبد بأذهان حراس المعبد العلماني، من شعور بأن الحياة من حولهم بقيادة رئيس الوزراء، زعيم الحركة الإسلامية، اتجهت قدماً في اتجاه الإسلام، بما يهدد بتغيير طبيعة الدولة، فانعقد مجلس الأمن القومي في اجتماع عاصف اشتهر باجتماع 28 فبراير 1997 الذي صدر عنه 18 بنداً، هي جملة من الإجراءات الصارمة ضد التيار الإسلامي على كل الصعد الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، تأمر رئيس الوزراء الإسلامي بتنفيذها، فماطل حتى اضطر غير بعيد للاستقالة، لتدخل تركيا في طور عصيب من الاضطراب السياسي والثقافي والفساد الاقتصادي المهدد بالانهيار.
واستمرت هذه المرحلة العصيبة، التي عرفت بمرحلة 18 فبراير، ولم تنته إلا بانهيار طبقة سياسية يمينها ويسارها، وجملة أحزابها تقريباً، ليعود التيار الإسلامي بعد خمس سنوات في ثوب جديد بزعامة شابة، تربت في أحضان المعاهد الدينية، ثم في الحركة الإسلامية خلال عقدين، وشملتها موجة الاضطهاد... إنه الطيب رجب أردوغان، الذي أطيح به من رئاسة بلدية من أكبر البلديات في العالم، تجلت فيها عبقريته، إذ توفق إلى حل مشكلات حياتية فشل فيها كل من سبقه، فأحاطه الناس بحب عظيم. ولم يشفع له ذلك من العزل والزج به في السجن.
لقد أفضى حكم العسكر إلى إقصاء زعيم الحزب أربكان من السياسة، ما اضطره أن يمارسها من وراء ستار، من خلال حزب جديد هو حزب الفضيلة، دفع إلى قيادته أحد رفاقه هو المحامي رجائي قوطان، وحافظ الحزب على مكانه على رأس الأحزاب، لكن في المعارضة. ولم يرض ذلك الباب العالي، فصدر قرار بحله، فتشكل حزب السعادة بديلاً له. وفي مؤتمره تحدى تيار الشباب بزعامة عبد الله غول وأردوغان قيادة الحزب المتمتعة بثقة أربكان. وكاد غول أن يفوز بالقيادة، ليضع موضع التنفيذ البرنامج الإصلاحي الذي يطالب به هو وأردوغان، فلما لم يحصل ذلك انطلق هذا التيار إلى تشكيل حزب جديد انحاز إليه 51% من نواب الحزب في البرلمان.
وكانت الفكرة الأساسية ل«العدالة والتنمية»، الحزب الجديد من أحزاب الحركة الإسلامية، تحمل جملة من التعديلات على السياسات المعهودة في هذا التيار، اعتباراً بما حدث في السنوات الست العصيبة الماضية، حيث تعرضت الحركة الإسلامية لمخطط إقصاء واستئصال وكسر عظم، على يد صاحب السلطة العليا الجيش.
والدرس: تجنب كل ما يفضي إلى تجدد الصدام مع صاحب السلطة، بل العمل على كسب ثقته، وكذا تجنب الصدام مع العسكر ومعبدهم العلماني، وهو ما لا يمكن تحقيقه مع استمرار زعامة أربكان، الطرف المباشر في ذلك الصدام. وكذا إعطاء الأولوية للعلاقة مع أوربا وللاقتصاد، والابتعاد عن إثارة المعارك حول بعض القضايا الحساسة، مثل الحجاب، باعتباره من أسخن ساحات الصراع بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، الذي لم يتردد في طرد نائبة من البرلمان، وشطبها، رغم أنها منتخبة... فقط بسبب إصرارها على غطاء الرأس، وهو ممنوع بنص دستوري، مع أن الزائر لتركيا يفاجأ بالحجم الواسع لانتشار الحجاب، بما يتراوح في مدينة مثل إسطنبول بين 70 إلى 80%، على حين أن أبسط معنى للديمقراطية أن تكون السلطة معبرة عن إرادة الشعب كله أو أغلبه على الأقل، وهذا مثل اخر صارخ على ما تتلظى به الحياة التركية من تناقضات، فهي خليط من إسلام وعلمانية، عثمانية وأوربية، دكتاتورية وديمقراطية، حكم الشعب وحكم العسكر، بين شارع يملأه الإسلام ودستور يحاربه. هذا هو الواقع الذي يجب التعامل معه بالحكمة، والرهان على النفس الطويل في التطوير، وتأجيل طرح المحاور المثيرة، وإعادة ترتيب الأولويات، وإيلاء قضايا المعاش، وحقوق الإنسان، واحترام القانون، ومقاومة الفساد في نخبة الحكم، وتهيئة البلد للانضمام إلى أوربا سبيلاً آخر للتقوي على الباب العالي الجديد، والحد من سلطانه المطلق.
ما حقيقة مشروع‏ العدالة والتنمية؟
هل هو استمرار وتواصل مع نفس المشروع الذي بدأه مندريس واستأنفه ديميريل ثم تورغت أزال، ووصل إلى أوجه مع أربكان؟... مشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها، من خلال الحد من التطرف العلماني للدولة في عدائها للدين، في مسعى لاستبدال علمانية متطرفة بأخرى معتدلة، هي أقرب إلى النوع الأوربي، الذي يغلب عليه الحياد، إزاء المسألة الدينية، وذلك بالإفادة من التجارب السابقة، باعتماد مرونة أكبر في خدمة نفس المشروع، بما يحفظ جوهره، ويتخلى ولو ظرفياً عن بعض مظاهره، من أجل فتح أبواب التطور في وجهه بعيداً عن أسباب التصادم مع «الباب العالي»؟
أم أن مشروع «العدالة والتنمية» هو تنازل عن مشروع الحركة الإسلامية بل خيانة له. وفي أفضل الأحوال الرهان على ما سماه البعض بالعلمانية الإسلامية، أو هو ما اعتبره أنصار مؤسس المشروع البروفسور نجم الدين أربكان إيثاراً لملاذ السلطة، والعيش تحت الأضواء، وإرضاء العسكر ومؤسسة المال والإعلام والأمريكان؟ أم هو تنازل عن جوهر المشروع الإسلامي، واستسلام للعلمانية، وانتصار ساحق لها، كما روج لذلك بعض عتاة العلمانية في بلادنا، مبدين فرحة صفراء بانتصار العدالة والتنمية؟
الثابت أن حزب «العدالة والتنمية» بزعامة النجم الصاعد الشاب رجب أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول، وهو إلى جانب غول أبرز الشباب، الذين أعدهم أربكان لخلافته، قد نجح إلى جانب احتفاظه بشعبية واسعة داخل التيار الإسلامي في استقطاب قطاع واسع من اليمين العلماني المحافظ، الذي تخلى عن أحزابه التقليدية، وتركها تنهار بسبب فسادها وعجزها عن تقديم حلول لمشاكل البلاد الكبرى، كما استقطب فئات أقل من ذلك من اليسار، الذي تراجع بنسبة الثلث لنفس الأسباب. واستقطب كذلك حوالي ثلث الناخبين الأكراد، فضلاً عن استقطابه للقاعدة الإسلامية (حوالي 23%)، عدا نسبة ضئيلة (2%) ذهبت إلى السعادة. وكل هذه الفئات الواسعة رأت في العدالة والتنمية وزعامته الشابة منقذاً للبلاد من كارثة الفساد الاقتصادي، أو من الحرب الأهلية في كردستان، أو من التصادم مع العسكر. وكلها رأى فيه، رغم التباين الثقافي، الأمل في إنقاذ تركيا من الفساد الاقتصادي، بما عرف عن زعمائه من فعالية ونظافة خلال ممارستهم لإدارة البلديات.
ولكن رغم تعدد واختلاف الأوعية التي غرف منها العدالة والتنمية، تبقى الرافعة الكبرى التي رفعته إلى السلطة، في انتصار ساحق، على أحزاب وزعامات عريقة، (أحالها دفعة واحدة على المعاش، كما تفعل رياح الخريف مع الأوراق اليابسة، إيذاناً بتجدد شباب السياسة)، هي قاعدة إسلامية، قد وعت بيقين أن التمادي بنفس السياسات والوجوه بزعامة مباشرة أو غير مباشرة لمؤسس الحركة الإسلامية، ليس من شأنه غير استمرار اشتباك غير قابل للتسوية، قد غدا معوقاً لتحقيق المشروع الإسلامي حتى في مطالبه الأولوية من شعائر وحجاب ومدارس دينية، فلا مناص من تغيير في الخطاب والوجوه والتكتيكات... فكان العدالة والتنمية، وذلك أن:
أ- القاعدة الإسلامية التي رفعت أربكان إلى سدة الوزارة الأولى، تجاوزت نسبتها 22% من أصوات الناخبين، ولم يذهب منها إلى حزب السعادة غير 2%، فأين ذهب البقية إذا لم يكونوا هم غالبية من صوت للعدالة؟
ب- إن أداء الإسلاميين في الحكم لم يكن سلبياً، وكانت في إدارة المدن التركية الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأرض روم ممتازة، وهو الأداء الذي جعل من أردوغان نجماً ساطعاً في سماء إسطنبول، لا بشعارات إسلامية هي أصلاً محظورة الاستعمال في تركيا بل ببرامجه وإنجازاته، التي جعلت الماء والكهرباء ووسائل النقل والخبز تصل إلى كل بيت، والطرقات معبدة ونظيفة، وعشرات الآلاف من الطلبة يتمتعون بالمنح، وخزائن البلدية بها فائض، بعد أن كانت مثقلة بديون تبلغ عدة مليارات من الدولارات. وهو ما فرض على النخبة السياسية أن تسلّم أن لا أحد قادر على منافسة الإسلاميين في إدارة شؤون البلديات. كما فرض التسليم بحقيقة أخرى أن رصيد الإسلاميين في الحكم، وحل مشاكل الناس، ليس مجرد شعارات تدغدغ المؤمنين، وتعدهم بالجنة، وتخوّفهم بالنار، على أهمية أثر ذلك لو حصل، وإنما برامج عملية لحل مشكلات معيشية، فشلت أحزاب العلمنة في حلها، بسبب انفصالها عن ضمير الشعب، وما تلوثت به من مفاسد.
ج- إن كل المؤشرات في العالم الإسلامي، وحيثما وجد مسلمون، تشهد على ارتفاع مذهل لنسب التدين، حتى تلك التي طبقت فيها بشراسة ووحشية وتواطؤ دولي ومحلي خطط الاستئصال وتجفيف الينابيع مثل تونس، بسبب ما تعرض له التدين والمتدينون من قهر على يد حكومات قمعية فاسدة، من مثل تسلط الدولة في تونس وتركيا، على المؤسسات الدينية، وعلى ضمير المؤمنات بتجريم حقهن في التعبير عن تدينهن، بحمل رداء التُقى، ما تسبب في طرد الآلاف، وكبت الملايين وقهرهن وذويهن، وكذا حرمان أصحاب المشروع الإسلامي من حقهم الطبيعي والشرعي في المشاركة في الشؤون العامة، ومنها العمل السياسي، وكبت كل تعبير ديني. وباعتبار أن الدين هو أعمق ما في الضمير الفردي والجمعي لأمتنا، فإن كل مدافع عنه محبوب، وكل عدو له مبغوض، لا سيما والكبت والقمع لكل حر هو شريعة الأنظمة القائمة، مما جعل الهوة تتسع بينها وبين الشعوب.
د- إن حملة رسالة الإسلام اليوم هم في الصف الأول من جبهة الذود عن الأمة وعن دينها في مواجهة الحملات المتصاعدة عليها، والتي لم يتردد الأمريكان في تعليق لافتة الصليب عليها، هذه الهجمة الدولية على الإسلام وأمته من جهة، ولا سيما في فلسطين، والعراق، وما ينهض به الإسلام من أدوار تعبئة وتجنيد للرأي العام، وما قدمته وتقدمه الحركة الإسلامية من نماذج رائعة في الفداء، ونقل الرعب إلى صفوف الأعداء، وتعديل موازين القوى... كل ذلك أسهم في تأجيج المشاعر الدينية في الأمة، بما ضاعف من شعبية الإسلاميين، على حساب الجماعات العلمانية، لا سيما وقد تعاضد خنوع الكثير منها وتذيلها لقوى القمع في الداخل والخارج... تعاضد مع فشو الفساد في أوساط جماعاتها الحاكمة... تعاضد على تدهور شعبيتها، وتضاؤل وزنها، واتساع الهوة بينها وبين شعوبها. ظهر ذلك في مختلف أرجاء العالم الإسلامي من جاكرتا إلى طنجة، مروراً بإسلام آباد والمنامة ومصر والجزائر وساراييفو وتونس نفسها... بما يجعل ما حدث من اكتساح إسلامي للشارع التركي ظهر في الانتخابات الأخيرة في شكل فوز ساحق للإسلاميين بحوالي ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان، ليس ظاهرة شاذة ولا فريدة في الحالة العامة، التي تمر بها الأمة، بل هو من جهة جزء من هذه الحالة العامة، التي تتعرض فيها الأمة لأشد التحديات، فتحتاج إلى تجريد أمضى أسلحتها.
وهل وقف في وجه تفوق السلاح الإسرائيلي الساحق غير سلاح الاستشهاد، ورأسماله الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو من جهة أخرى تواصل وامتداد لمسار طويل بدأه الشعب التركي منذ خمسينيات القرن الماضي، بل منذ قرن سبقها في اتجاه اكتساب الحداثة في إطار الإسلام وتراثه ولخدمته، وذلك في مواجهة الخيار الآخر الذي طرحه الغرب على الأمة، وتبنته كل الأحزاب العلمانية بمختلف تلوناتها، ولا سيما تلك القائمة منها على النمط الماركسي. أو حتى النمط الفرنسي، الذي تأثرت به النخبة الحاكمة في تركيا وفي تونس، وهو النمط الذي لا يرى في الدين، في المحصلة، غير كونه عقبة في طريق التقدم، مطلوب إزاحتها، والتفلت منها بإحدى آليتي «الاجتهاد» العشوائي، أي غير المنضبط بقواعد تفسير النصوص، والإهمال أو الإلغاء جملة، توصلاً إلى إحالة المسألة الدينية إلى زاوية الخصوصيات الفردية، ثم تنظيم الحياة بمعزل عنها، بل على النقيض من تعاليمها، بما يفضي نهاية إلى انتزاعها من تلك الزاوية نفسها، وإحالتها إلى سلة المهملات، إذ طبيعة الحياة لا تتحمل في النهاية غير سلم أعلى واحد من القيم: إما أن تكون مرجعيته العليا الوحي، وفي ظله يمكن تقبل العيش أقليات تتواءم معه، وتسالمه، على نحو أو آخر، أو أن تكون مرجعيته أرضية، فتستقل بتنظيم المجال العام، وتفرض على الآخرين الانزواء إلى المجال الخاص.
ولأن مشروع التقدم على طريق التقليد للغرب، والنظر إلى ديننا وحضارتنا وتاريخنا، ومكانة الإسلام القيادية فيهما، من الزاوية الغربية، قد فشلا فشلاً ذريعًا في أن ينجزا أي شي‏ء، مما وعدا به من ازدهار اقتصادي، وتقدم حضاري، وعزة قومية، وعدل وحرية، فضلاً عن تحرير فلسطين، وتوحيد الأمة، وتركيا مثل في الخيبة، حتى إن وحدتها القومية مهددة بالتمزق، بسبب تمزيق الخيط الناظم لشعوبها: الإسلام، وإحلال نزعة شوفينية متغربة بدله، عزلت تركيا عن محيطها العربي الإسلامي، وزجت بها في حرب أهلية مدمّرة مع المكونات العرقية والثقافية غير التركية مثل الأكراد، الذين لم يسمع أحد بمشكل معهم لا في تركيا ولا في العراق خلال تاريخ طويل من الحكم الإسلامي، قبل ظهور النزاعات القومية، ولذلك لا عجب أن صوّت الأكراد بكثافة لصالح إسلاميي حزب العدالة.
فليس إذن في ما حققه هؤلاء من فوز ساحق أي أمر مستغرب، باعتبار ما غدوا رمزاً له من تديّن، ونظافة يد، وقرب من الناس، وتفان في خدمتهم، ودفاع عن الهوية الإسلامية للبلد... إنهم التواصل لمشروع التصالح بين تركيا وهويتها الإسلامية... بين حاضرها وماضيها... بين إسلامها وحركتها الإسلامية من جهة، وبين عصرها وقوميتها وعلمانيتها من جهة أخرى. إنّهم طموح لمواجهة التحديات الكبرى، التي تواجهها تركيا والعالم الإسلامي، واستجابة تتشكل من مزيج مركب بين الإسلام والحداثة... بين الإسلام والديمقراطية.
ما هو الإستراتيجي وما هو الظرفي؟
إن الحركة الإسلامية التركية التي أسسها البروفسور نجم الدين أربكان، في صيغها المختلفة، التي برزت بها إلى الساحة، وآخرها حزبا «السعادة» بقيادة طوقان، و«العدالة والتنمية» بزعامة رجب الطيب أردوغان، قد غلبت عليها الروح العملية، فلم يعرف لها جهد في مجال الإنتاج الفكري: مؤسس الحركة مهندس يحسن لغة الأرقام والتخطيط، فطبع التيار بطابعه، وللمهندسين دور قيادي بارز في الحركة الإسلامية المعاصرة بديلاً عن المشايخ. أما غذاؤهم الفكري فمستمد في أصله من فكر الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في الباكستان وحركة النهضة التونسية، عبر الترجمات السريعة، التي برعوا فيها لكل ما يصدر في ساحة الفكر الإسلامي، مضافاً إليه ثلث قرن من العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مناخ علني مفتوح، وهو ما يميز الإسلاميين الأتراك والماليزيين عن أمثالهم من العرب.
إن غلبة الروح العملية على المجادلات النظرية الأيديولوجية جعل حركة التطور لديهم يسيرة، مكتفين في المجال الأيديولوجي بالمتابعة الدقيقة لكل ما يصدر في العالم الإسلامي، عبر الترجمة السريعة، عن مفكري الحركة الإسلامية، ولا سيما الجيل الجديد، مما دفع إلى تركيز جهدهم على تأصيل فكر الحداثة في الساحة الإسلامية من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، مع صبغة صوفية هي من تراث البلد. وهذه حقيقة يعرفها كل من له صلة بحثية جادة، أو معاشرة مباشرة للحركة الإسلامية في تركيا، الأمر الذي يفرض تنزيل ما رفعه زعماء حزب العدالة والتنمية من شعارات في حملاتهم الانتخابية، التي قادتهم إلى فوز ساحق من مثل التصريح بأن «العدالة والتنمية» ليس حزباً دينياً، أو أنه ليس حركة إسلامية، أو محاولته التأكيد على التوافق بين الإسلام والعلمانية، ينبغي الاقتصاد في إلباسها كساء أيديولوجياً فضفاضاً يتجاوز مسلمات الفكر الإسلامي المعروفة في الساحة الإسلامية، والتي نشأ عليها مؤسسو حزب العدالة.
إن استصحاب تلك المسلمات هو الموقف العملي الرصين، بعيداً عن الجري وراء الأماني، من مثل التصفيق المشبوه من طرف بعض غلاة العلمانية المتذاكين لفوز التنمية والعدالة، باعتباره بحسبانهم نصراً للعلمانية، وهزيمة للإسلام السياسي!! أو تجاوز الرصانة العملية من طرف بعض الأقلام، التي عرفت عادة بالرصانة في التحليل والاستنتاج، إذ ذهبت إلى وصف أيديولوجية العدالة والتنمية بالعلمانية المؤمنة، وذلك دون استناد إلى أي نص قد صدر قديماً أو حديثاً عن خريج معاهد الأئمة والخطباء حامل كتاب الله رجب الطيب أردوغان، زعيم الحزب، الذي كان لتوه قد خرج من السجن بتهمة النيل من العلمانية، لمّا أورد في خطبة له أبياتاً لجلال الدين الرومي، يؤكد فيها أن المصاحف أسلحتنا، والمساجد ثكناتنا، والمآذن مدافعنا.
والحركة الإسلامية إنما قامت منذ ابتليت الأمة بالاحتلال الغربي وما صاحبه من غزو فكري، استهدف إقصاء الإسلام دستوراً لحياة المسلمين يوجه تصوراتهم الفلسفية وقيمهم ونظم حياتهم أي علمنة الإسلام. وذلك رغم انعدام الحاجة في الإسلام لمثل بعض الأدوار الإيجابية، التي قامت بها العلمنة في الغرب، مثل محاولة تحرير الدين من سلطان رجال الدين، من أجل فتح الباب أمام المؤمن ليقيم علاقة مع ربه، من دون واسطة، وليتعامل مع النصوص المقدسة من دون وصاية لأي مجتهد. وهو معنى ثابت في ديننا. أو هو تحرير العقل من كل وصاية، وفسح المجال أمامه ليرتاد أي مجال، من دون حواجز ولا قيود من خارجه، والثقة في قدرته على المعرفة. بينما كانت الكنيسة لا ترى للمعرفة من طريق غير الكتاب المقدس، وهذا المعنى الإيجابي للعلمانية أيضاً ثابت في دين الإسلام، دون حاجة إلى استيراد.
وللتنبيه فإن تأكيد مرجعية الوحي العليا ضمن آليات الاجتهاد المعروفة لم يمنع المسلمين من الاختلاف والتنوع وحتى التناقض والتصادم، وذلك في غياب مؤسسة تحتكر التفسير والنطق باسم السماء، والتفتيش في ضمائر الناس، بما يعيد الأمر نهاية إلى الناس، حكماً في ترجيح «اجتهاد» على آخر، دليلاً للعمل، ويستمر باب الاختلاف والحوار مفتوحاً يجد التشجيع على ولوجه، أصاب المجتهد أم أخطأ فهو مأجور.
علمانية جزئية وأخرى شاملة
إن العلمانية كما ذكر أحد أبرز المتخصصين فيها، المتتبعين لمسار تطورها، الدكتور عبد الوهاب المسيري في آخر دراسة مستفيضة له (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) (جزآن ط1 دار الشروق 2002) «مصطلح خلافي جداً شأنه شأن مصطلحات أخرى، مثل التحديث والتنوير والعولمة، شاع استخدامها، وانقسام الناس بشأنها بين مؤيد ومعارض، بل لعل العلمانية أكثر المصطلحات إثارة للفرقة، إذ يتم الشجار حوله بحدة تعطي انطباعاً بأنه مصطلح محدد المعاني والأبعاد. ولكننا لو دققنا النظر قليلاً لوجدنا أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك لعدة أسباب:
1- إشكالية العلمانيتين، أي شيوع تعريف العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة. وهو ما سطّح القضية تماماً وقلص نطاقها.
2- تصور أن العلمانية مجموعة أفكار وممارسات واضحة، الأمر الذي أدى إلى إهمال عمليات العلمنة الكامنة والبنيوية.
3- تصور العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية آخذة في التحقق، فالعلمانية لها تاريخ.
4- أخفق علم الاجتماع الغربي في تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية، الأمر الذي أدى إلى تعدد المصطلحات والافتقار إلى وضوح الرؤيا.. ويخلص الدكتور المسيري إلى أنه «توجد علمانيتان لا علمانية واحدة: الأولى جزئية، ونعني بها العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة وحسب، والثانية شاملة، ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية لا عن الدولة فحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص، بحيث تنزع القداسة عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية، يمكن توظيفها لصالح الأقوى» (المصدر السابق، ج‏1، ص‏15 16).
ولأن العلمانية معنى ملتبس، وإلى أن يثبت صدور نصوص تثبت تراجع جماعة «العدالة والتنمية» عن الخط الفكري العام للحركة الإسلامية، في اعتقادها في شمول الإسلام لكل ما هو تصور وقيمة وسلوك فردي أو جماعي، مما هو متناقض حتى مع أكثر معاني العلمانية شيوعاً، الذي هو تحرير السياسة: أي المجال العام من نفوذ الدين، يبقى الموقف العلمي في الحكم على أيديولوجية آخر تشكلات الحركة الإسلامية التركية «حزب العدالة» هو مبدأ الاستصحاب، وتفسير ما يصدر عنهم من كلمات عامة، بما عرفوا به من مرونة وواقعية، من أجل تجنب الصدام مع السياج الحديدي، الذي يحيط بالحياة السياسية التركية، ويفرض عليها قيوداً صارمة، يجعلها أبداً مهددة بسيف ديمقليدس، الذي طالما نزل على رؤوس الإسلاميين، رغم مرونتهم، الأمر الذي جعل مجرد التلفظ بالإسلام نفسه جريمة في الحياة السياسية، الأمر الذي يفرض استخدام مصطلحات بديلة مثل النظام الملي أو العدالة.
ولا شك أن إسلاميي حزب العدالة، وهم يمارسون السياسة، ضمن هذا السياج الضيق الخانق، قد تعلموا من تجربتهم الكثير، وراكموا التجارب، فغدوا أكثر حذراً واقتداراً على تجنب وقوع ذلك السيف على رؤوسهم. إن التفسير بضرورات التلاؤم مع ذلك الإطار هو الأولى في حمل بعض شعاراتهم المبهمة، من إطلاق دعاوى لا سند لها من فكرهم. وليس الإسلاميون الأتراك هم وحدهم من فرض عليهم صياغة أيديولوجيتهم بما يتواءم مع السياج المفروض عليهم، بل إن جملة التيار الإسلامي في العالم ولا سيما في البلاد، التي منيت بتحديث فوقي صارم، مثل تونس والجزائر ومصر، قد اضطرت للإقدام على نوع من تلك المواءمة، فقد تخلى الكثير منهم عن مسمى الإسلام في الراية التي يرفعونها مثلاً للانسجام مع قانون الأحزاب، مع أن لا أحد قد صرح بأنه قد تنازل عن شي‏ء من إسلامه.
ليس في ما صدر عن جماعة العدالة والتنمية من بعض تصريحات متشابهة ما يحمل على الظن أن الأمر يتعلق بتحولات فكرية، وليس بمجرد خطط عملية تتصل بفقه الواقع، فقه تنزيل المبادئ في زمان ومكان محددين، بما يقتضيه ذلك من تدرج، وترتيب الأولويات، ورعاية الظروف، على اعتبار أن القران نزل منجماً، وكذا طبق، وكذا شأنه إذا أريد تطبيقه مجدداً؟. ففي موضوع الحجاب، على سبيل المثال، وهو ساحة ساخنة جداً، ونموذج لضيق أفق وتعصب ودكتاتورية العلمنة التركية ونسختها المشوهة التونسية، مما كان سبباً في تعكير الحياة السياسية وتأزيمها، سياسة جديدة للإسلاميين على هذا الصعيد، لم تمس قط مجال الاعتقاد والتصور، ولا مجال الالتزام الشخصي، فكل ذلك على ما هو عليه، لا صوت فيهم ارتفع مشككاً في شرعية الحجاب، ولا قدم في مستواه الشخصي تنازلاً عنه، حتى عندما شكل ذلك استفزازاً لرئيس الدولة، إذ ذهب إلى توديعه رئيس البرلمان عن حزب العدالة في صحبة زوجته المحجبة، كما هو شأن زوجات وبنات زعماء الحزب، خلافاً لمن تحالف معهم. مما بعث برسالة واضحة مزدوجة: الإسلاميون متمسكون بدينهم، لكنهم لا يفرضون ذلك على الآخرين، وسيعملون ولو بتدرج على منع الآخرين من إدمان فعل ذلك، إلا أنهم ليسوا متعجلين، ولا يرونه أولوية، تستحق خوض المعارك من أجلها، إذ العبرة ليست بالعناوين على أهميتها بل بالمضامين، وما قيمة سلوك معين: صلاة أو حجاب يفرض بالقوة، في دين قد جعل القيمة الدينية الأولى لكل عمل ليس شكله وإنما باعثه «إنما الأعمال بالنيات».
ولو أننا تأملنا في جملة ما أعلنه حتى الآن حزب العدالة والتنمية من سياسات، لوجدناه امتداداً متطوراً لتراث الحركة الإسلامية التركية، مع مرونة أكبر في التنزيل، وحرص أكبر على ترتيب الأوليات بطريقة عقلانية ذكية: فقد تطور خطاب أربكان ذاته بأثر تراكم التجربة وضغوط الواقع وتواؤما مع السياج الحديدي المكون من ثلاث أثافي: الغرفة التجارية المكونة من كبار رجال الأعمال، وهي تحت سيطرة الدونمة، وكبريات الصحف، وهي على صلة وثيقة بهم، وثالثة الأثافي قيادة الجيش، وهي على صلة أيضاً بالركنين السابقين، فهؤلاء هم الماسكون بخيوط اللعبة، ولهم هيمنة على المحكمة العليا. وهم المحددون للفلك الذي تتحرك فيه السياسة: البرلمان والحكومة والأحزاب. هذا فضلاً عن السياج الخارجي، الذي يشد تركيا إلى أوربا، وإلى الحلف الأطلسي، وإلى المؤسسات الرأسمالية الدولية.
إن أربكان بدأ مسيرته الإسلامية ممتلئاً بالمثل الإسلامية المعروفة في معارضة مشروع أتاتورك القائم على قطع تركيا نهائياً عن جذورها الإسلامية، وعن امتدادها العربي الإسلامي، ودمجها في أوربا، فكان همه الأعظم استعادة تركيا إلى العالم الإسلامي، والتصدي بالوسائل القانونية لذلك المشروع، ولعضويتها في الحلف الأطلسي، وللنظام الرأسمالي، وللصهيونية. وكانت القدس محور خطابه الأساسي، ولكن ممارسته خلال ثلث قرن للسياسة فرضت عليه أن يدرك مدى صلابة تلك الأسيجة، وشراسة حراسها، فعدّل من خطابه ومن إستراتيجيته على نحو فرض عليه الاعتراف بتلك الأسيجة، ومنها العلاقة مع إسرائيل، والتعامل معها، على أمل ترسيخ وتوسيع القاعدة الشعبية لمشروعه.
ومع كل ما طوّر من خطابه في اتجاه الواقعية، فقد كان صعباً على حراس المعبد في الداخل والخارج أن يقبلوا بشخصيته الكاريزمية، لا سيما أنه قد تحرك أحياناً في المناطق المحظورة، إذ سارع إلى الدفع إلى بعث كيان إسلامي اقتصادي دولي، من شأنه أن ينشط ذاكرة يراد لها أن تموت. فأطاحوا به دون أن ترف لهم عين.. حاول أن يقود السفينة من وراء ستار، ولكن ما أمكن ذلك، وسارت الأمور على غير ما أراد الزعيم من خليفة له. وتمكن أردوغان وغول من خلال ما يتمتعان به من مكانة في التنظيم، وزعامة شعبية وخبرة في التكتيك، ولا سيما الأول من قيادة التيار الأكبر في الحركة إلى صفهما. لم يفعلا من جهة الأيديولوجيا إلا أن صبّا نفس الرحيق في قوارير أكثر جمالية وجاذبية، وانتهجا نهجاً أكثر واقعية، دون تقديم تنازلات أيديولوجية، غير التي عهدت عن جملة التيار.
لقد تحدثوا عن أن مشروعهم يهدف من الناحية الثقافية إلى مصالحة بين العلمانية والإسلام، وبين الديمقراطية والإسلام، وأنهم حزب محافظ مسلم على غرار الأحزاب المسيحية الأوربية. وليس في ذلك جديد على خطاب أربكان، الذي تؤكد جماعته أن خطاب جماعة العدالة والتنمية ليس هو الذي أوصلهم إلى اكتساح الساحة، وإنما تفاهمهم مع الباب العالي بكل أثافيه الداخلية، مؤسسة رجال الأعمال والصحافة والجيش والأمريكان وإسرائيل... «ذلك التفاهم هو الذي جعل قوة الإعلام تعمل ليل نهار لتلميعهم، وتصوير أن ليس في تركيا سوى حزبين يمين محافظ هو حزب العدالة والتنمية ويسار هو حزب الشعب، وهو ما أفضى إلى تهميش الباقي».
وعلى فرض أن هذا التفسير يحمل بعض دلالات الصدق، فهو يبالغ في احتقار وعي الشعب، وتصويره على أنه مجرد ألعوبة في يد الإعلام. ويهمل من خلال ذلك خبرة هذا الفريق الشاب وما كسبه من زعامة ونجاحات وخبرة، خلال إدارته الفذة للبلديات الكبرى والصغرى، وذلك مقابل ضعف الزعامة في الفريق الآخر، الذي عوّض دور مؤسس الحركة. لقد عبرت القاعدة الإسلامية، من خلال ميلها إلى الفريق الشاب وزعامته المتوقدة، عن رغبة في تغيير الوجوه والخطاب، كما عبرت قطاعات أخرى من الشعب قد عن نفض يدها من زعامات تاريخية أنهكها الزمن شيخوخة، وفتّ الفساد في عضدها... عبرت هي الأخرى عن رغبة في التغيير، وأمل في الشباب، وخروج من طور التفتت والتمزق، والانشغال بترقيع حكومة، وسقوط أخرى. فوضعت ثقلها مع فريق شاب منسجم جربته فنجح في مد المياه إلى كل حي، وتسريح المجاري، وتنظيف الشوارع، وإعانة المساكين والشباب.
يمكن اعتبار ما حدث في تركيا ثورة بيضاء ضد منتظم سياسي ميت أصلاً، فجاءت صناديق الاقتراع لتعلن عن دفنه. إنه من الناحية الرمزية إعلان كذلك عن إفلاس مشروع علمنة تركيا وتغريبها، وبداية النهاية لذلك المشروع. وهو من ناحية ثالثة انتصار للديمقراطية لا للعلمانية، وتعبير عن إصرار الشعب التركي على أن يدخل أوربا مسلماً، بقيادة إسلامية قوية شابة، مدعومة بقوة من شعبها، متصالحة مع تاريخها ومع محيطها العربي والإسلامي. ويمثل اختيار عبد الله غول عندما كان يتولى رئاسة الحكومة البلاد العربية المنطقة الأولى لزيارته، إلى جانب لقائه مع الأمين العام للجامعة العربية، وتقديمه طلباً لعضوية مراقب في الجامعة العربية، رموزاً مفعمة بالدلالات على حرص إسلاميي تركيا كإسلاميي كل العالم الإسلامي، وليس علمانييهم، على اعتبار العرب عمقهم وسندهم، لا سيما وقد عاش الترك والعرب كياناً واحداً حوالي أربعة قرون.
قد يعتبر البعض وهو على حق، أن فوز الإسلاميين الباهر هو انتصار لمصالحة بين العلمانية والإسلام. ولقد حدث مثل ذلك مرات في تركيا بين إسلامييها وعلمانييها اليساريين والمحافظين، إذ جمعهم برنامج سياسي واحد، وحكومة واحدة، كما أنه حصل على الصعيد العربي والإسلامي العام تصالح بين العلمانية والإسلام، بما تأسس على أساس ذلك من مؤسسة مهمة جداً، هي المؤتمر القومي الإسلامي، وما تفرع عنه من فعاليات ميدانية بين أنصار التيارين، إن على الصعيد السياسي، ضمن تجمع الأحزاب العربية، أو ضمن مسيرات التضامن، نصرة لقضايا الأمة الكبرى في فلسطين والعراق، أو على صعيد معارضات محلية، كما هو حاصل في اليمن بين التيار الإصلاحي والاشتراكي والناصري، والذي إنما جاء اغتيال الزعيم جار الله عمر لإفساده لما يمثله من خطر، أو على صعيد المجتمع المدني، بما حصل على صعيد النقابات العمالية والمهنية من تعاون وتحالف بين التيار الإسلامي، وبين تيارات علمانية دفاعاً عن الحريات وحقوق العمال وتصدياً للدكتاتورية.
غير أن الجدير بالتنبيه إليه هنا أن هذا التعاون أو التحالف بين التيارين إنما تم بين قوى الاعتدال فيهما. أما قوى التطرف والاستئصال في التيارين فلا زالا ينظرّان للقطيعة، ويؤصلان العداوة، لدرجة الإقدام على التحالف مع أنظمة بوليسية فاسدة، ووضع الخبرات التنظيمية والسياسية والبعد الدولي تحت تصرفها، كما حصل في تونس من طرف تيارات يسارية انتهازية، بعضها قد أقلع دون أن يتخلى نهائياً عن تراثه الاستئصالي، ولا اعتذر عن خدماته، التي قدمها للدكتاتورية، وبعضها لا يزال مستمرئاً تقديم خبراته وقدراته لأنظمة سلخ أعز سني شبابه في سجونها ومقاومتها، احتجاجاً على ارتباطاتها بالإمبريالية، مع أن تلك الارتباطات كانت شعرات بينما هي اليوم حبال غليظة.
والحقيقة أن ما حصل في تركيا ليس تصالحاً بين العلمانية والإسلام، إذ قد تعاونت منذ السبعينيات مختلف أحزاب الاعتدال العلماني مع الاعتدال الإسلامي، إذ المعركة في عمقها وليس في مظاهرها ليست بين علمانية وإسلام، وإذا كان هنا من معركة فبين المتطرفين الاستئصاليين على الجهتين، وإذا كان من كسب يمكن أن يكون قد تعزز على هذا الصعيد، فهو ترجيح كفة الاعتدال العلماني على التطرف العلماني، وإنما المعركة في عمقها، إنما هي بين الباب العالي بجملة أثافيه المتحالفة: مؤسسة رجال المال، والإعلام وقيادة الجيش، مع غطاء الرأسمالية الدولية والصهيونية العالمية، من جهة، والشعب التركي بعلمانييه وإسلامييه من الجهة الأخرى.
لماذا بدا حرص جماعة العدالة والتنمية على دمج تركيا في الكيان الأوربي على هذه الدرجة من الإصرار والحرص والغرابة، مما لا يتساوق مع الاتجاه العام للإسلاميين في حرصهم على التميز عن الغرب والاستقلال عنه، وهو ما بدأت به تجربتهم نفسها حتى التسعينيات؟
لا يبعد أن يكون مرد هذه الدرجة من الإصرار والحرص وثيق الاتصال بمعركة الديمقراطية التركية مع السياج، الذي يخنقها، ويفرض عليها اللعب داخل مربع ضيق حدده الباب العالي. إنه سعي للتمرد على ذلك السياج، والتخلص من هذه الوصاية على إرادة الشعب، ونوعاً من سحب البساط من تحت أقدام الجنرالات، الذين يسوغون تسلطهم على إرادة الشعب، ويشترون الصمت الأوربي على جرائم الشريك، بما يقوم به هذا الشريك من حراسة لمصالحه في مواجهة «الخطر الأصولي» الداهم، والساعي إلى استعادة «الخلافة»، وغزو أوربا مجدداً.
إن حرص الإسلاميين على الاندماج في أوربا هو نوع من تجريد الخصم من سلاحه، وتجريد ظهيره الخارجي من أوهامه، وعرض صداقة بديلة عنه، نظيفة، ترفع الحرج عنه تجاه مجتمعه المدني الحقوقي، الذي طالما ندد بانتهاكات الشريك التركي للمعايير الأوربية للديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن عرض الإسلاميين بالذات لهذه الصداقة أو الشراكة، ترفع الغطاء عن المتطرفين العلمانيين والاستئصاليين، لا في تركيا وحسب، بل في عدد كبير من بلاد العالم الإسلامي، حيث تقدم أنظمة دكتاتورية فاسدة، تتمسح بالحداثة والعلمانية، ولا حظ لها من هذا ولا ذاك، تقدم نفسها للغرب، وتشتري صمته على فظائعها، باعتبارها «حارسة لمصالحه، في مواجهة الغول الإسلامي، الذي يهدد كل منجزات الحداثة»، ويبشر بالقطيعة مع الغرب، بل بالحرب عليه، في تعميم يحرص على الخلط بين المجرى العام للتيار الإسلامي، الحريص أبداً على العمل والتطور ضمن القانون، لو ترك القانون قناة للتنفس، ولو ضيقة، وبين التيارات الهامشية المتطرفة: إفرازات الدكتاتورية. وللحقيقة بهذا الصدد فإن تركيا، رغم تطرف علمانية الباب العالي وفساده، لم تصل إلى حد الاختناق، وانسداد كل القنوات، ولذلك لم تعرف العنف الإسلامي، وإن عرفت العنف العلماني اليميني واليساري، وأمكن أن يتحقق تراكم للخبرة والتجربة والتطور، عبر ثلث قرن من الممارسة الإسلامية، التي وإن تعرضت تكويناتها الحزبية للحل، وتعرض نفر قليل جداً من زعمائها للسجن، فقد ظلت أمامها عموماً مساحة من الحرية مفتوحة لاستقبال حزب جديد، كلما نزل سيف ديمقليدس على سابقه.
إن انضمام تركيا إلى أوربا وهي موحدة وراء حزب قوي، وزعيم شاب ألمعي، متصالحة مع هويتها، منفتحة ومتعاونة مع عمقها العربي والإسلامي، يمثل فرصة كبيرة لقيام ديمقراطية تركية إسلامية حقيقية، متخففة من سطوة الباب العالي لصالح تعزيز سلطة الشعب، تتمتع بقدر كبير من الاستقرار، وقد انزاح سيل الفوضى عن حزبين قويين أحدهما محافظ مدافع عن الهوية، يقابله تيار يساري يدافع عن إرث أتاتورك، وما يعتبره «قيم الحداثة».
كما إن نجاح هذه التجربة، بقدر ما يقدم من دعم معنوي للقوى الديمقراطية، على اختلاف مرجعياتها المعتدلة إسلامية وعلمانية، يغري بالاتباع، بقدر ما يمثل خطراً مخيفاً على قوى التطرف، على اختلاف مرجعياتها، التي اجتهد بعضها على التعتيم على التجربة، واشتراك الإسلاميين فيها، وبعضها بلغ به التطرف إلى حد إنكار إسلاميتهم، وكأن الشعب إنما اختارهم لعلمانيتهم، وكان أولى أن يختار صوراً علمانية أوضح، مثل أحزاب اليسار، التي كنس زعيمها الحاكم كنساً، وقد جعل من تعرية رؤوس الفتيات، أو حرمانهن من التعليم والشغل بطولة علمانية، وفحولة ديمقراطية، ولم يقصّر التطرف الإسلامي ممثلاً في كل ألوانه، في منافسة حليفه الموضوعي العلماني، في احتراف تكفير الديمقراطية وأربكان وأردوغان.
إن انتصار الديمقراطية الإسلامية في دولة محورية مثل تركيا، حدث يستحق الاحتفاء من كل القوى الديمقراطية، على اختلاف مرجعياتها، اخذين بعين الاعتبار كثافة وحدة الأسيجة، التي تخنق هذه التجربة، وتحد من حريتها في التصرف، فلا نطالبها بما ليس من صلاحياتها واختصاصاتها، وإنما هو عائد إلى الباب العالي.
إن عبقرية هذا الفريق إنما تمثلت في جملة ما تمثلت في رسم مسارب ضيقة، تجنبهم الصدام معه، يُقدر أنهم لو تمكنوا من مواصلة السير عليها سينتهون إلى توسيع تلك المسارب، التي تتحرك فيها الديمقراطية اليوم فتحاصره بالجماهير، من طريق ما تحققه من نجاحات والتفاف شعبي، ولا سيما على صعيدين: أولهما الصعيد الاقتصادي، الذي أوصلته عجائز التطرف العلماني إلى قاع سحيق، وزجت بحوالي 12 مليونا في لجة الفقر والبطالة. وثانيا على صعيد المجتمع المدني إطلاقاً لقواه المعطلة بتدخلات العلمنة المتطرفة.
إن إطلاق قوى ومؤسسات المجتمع المدني، ورفع وصاية الدولة عليها، وتقديم التشجيع لها، من مدارس وجمعيات ومساجد ومؤسسات خيرية ونقابات مهنية ومنظمات شبابية ونسوية، كل ذلك يمكن أن يشكل حماية لهذه التجربة، ورصيداً لتعزز قوتها واستقرارها ونموها وتأثيراتها الداخلية: ترسيخاً للعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، ورفعاً من المستوى المعيشي للفئات المطحونة، بتجفيف ينابيع الفساد، ودعم التضامن والسلم الأهلي، وتمتين الوحدة الوطنية، بالاعتراف بحقوق الأقليات، وتعزيز سلطة المجتمع المدني، ودولة القانون، وحقوق الإنسان.، ومشاركة المرأة في كل مجالات النهوض.
وعلى الصعيد الخارجي: دعم مسار التضامن العربي التركي، والتركي الإسلامي. والحد من حجم التعاون الإسرائيلي التركي، والتركي الأمريكي، الذي ليس للعرب أن يطالبوا بقطعه، حتى يضربوا المثل الحسن بدل المثل السيئ القائم اليوم. وبذلك تدخل تركيا أوربا إذا دخلت، وثبت أن هذه الأخيرة ليست نادياً مسيحياً، وإنما فضاء حضاري مفتوح، وهي قوية: بعد أن حقق تصالحها مع هويتها الإسلامية، وتاريخها، وتضامنها الوطني، متخلية عن الشوفينية، والعلمانية المتطرفة، وأمكن لها الحدّ من السلطان المطلق للباب العالي، ونهبه لأقوات الأكثرية.
آمال كبار لشعب كبير، توفق بفضل الله إلى إزاحة جيل قد استنزف، وأعطى الصولجان لجيل شاب، يتوهج ذكاء وخبرة وإيماناً، فهل سيجد التفهم والدعم من قبل كل القوى الديمقراطية الإسلامية والعلمانية على حد سواء، داخل تركيا وخارجها، ولا سيما من قبل العرب الذين جاءهم الإسلام بتركيا صاحبة أقوى ثاني جيش في الحلف الأطلسي، والمرشحة لتتعزز قوتها... جاءتهم تدق عليهم الأبواب، طلباً للتعاون، وكانت لأمد بعيد قد حولتها العلمانية المتطرفة إلى أحد السيوف الماضية المسلطة على رقابهم.
ابتهلوا معي إلى العزيز الرحيم أن يوفق هذا الفريق الصاعد في صفوف أمتنا إلى تحقيق آمالها فيه.

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 2



عبد الله جول



يعتبر وزير الخارجية التركي عبد الله غل مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم للانتخابات الرئاسية مقربا من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.
وهو خبير اقتصادي وسياسي محنك قاد أنقرة للبدء في محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي عام 2005.
ويرى كثيرون أنه يمثل الوجه المعتدل لحزب العدالة والتنمية المنبثق من التيار الإسلامي.
• ولد عبد الله غل في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1950 في محافظة قيصرية من عائلة متواضعة.
• تخرج من كلية الاقتصاد بجامعة إسطنبول عام 1972 ثم حصل على الماجستير ثم الدكتوراه من بريطانيا في موضوع تطور العلاقات الاقتصادية بين تركيا والعالم الإسلامي عام 1978.
• عُيّن مدرسا في قسم الهندسة الصناعية في جامعة سقاريا في تركيا ثم عمل في بنك التنمية الإسلامي في جدة كخبير اقتصادي بين عامي 1983 و1991 وفي العام نفسه حصل على درجة أستاذ مساعد في الاقتصاد الدولي.
• بدأ نشاطه السياسي مبكرا حيث كان في التاسعة عشرة من عمره حينما بدأ رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان نشاطه السياسي عام 1969.
• انتُخِب عضوا بحزب الرفاه الذي كان يتزعمه أربكان عن محافظة قيصرية عام 1991.
• وفي عام 1993 أصبح مسؤولا عن العلاقات الدولية لحزب الرفاه.
• وبين عامي 1995 و2000 كان عضوا في لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي.
• وبين عامي 1996 و1997 عيّنه أربكان وزيرا للدولة للشؤون الخارجية في حكومته الائتلافية حيث كلف بالعلاقات الخارجية وبينها ملف قبرص الشائك.
• انضم عقب حظر حزب الرفاه والإطاحة به من الحكم إلى حزب الفضيلة عام 1998.
• في مايو/أيار عام 2000 قاد حركة التجديد في حزب الفضيلة ورشح نفسه لرئاسة الحزب ضد رجائي قوطان زعيم الحزب الذي كان مدعوما من الزعيم التاريخي أربكان لكنه لم ينجح.
• بعد حل حزب الفضيلة عام 2001 أسس عبد الله غل مع رفيق دربه رجب طيب أردوغان حزب العدالة والتنمية الذي حاول الابتعاد عن صفته الإسلامية معتبرا نفسه قوة ديمقراطية محافظة.
• ولأن رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان كان ممنوعا من ممارسة النشاط السياسي فقد تولى عبد الله غل رئاسة الوزراء في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002 عقب فوز حزبه بالانتخابات التشريعية.
• بقي غل في منصبه أربعة أشهر رفع خلالها الحظر السياسي عن أردوغان فتنازل عن رئاسة الوزراء لصالح زعيم الحزب ورفيقه وتولى وزارة الخارجية ومنصب نائب رئيس الوزراء.
• كان عبد الله غل خلال الفترة القصيرة لتوليه رئاسة الوزراء أول رئيس وزراء تركي يزور الجامعة العربية بالقاهرة، كما أعد مذكرة تفاهم بين الجامعة العربية وتركيا.
• قبل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 قام بجولة في الدول العربية وأسس مؤتمر دول الجوار، ظل عضوا في المجلس الأوروبي لمدة عشر سنوات وحصل على ميدالية شرفية كعضو دائم بالمجلس حيث كان يعبر عن قضايا الدول المسلمة مثل الجزائر والبوسنة والشيشان.
• نجح عام 2005 في بدء مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
.

posted under | 0 Comments

ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 1


رجب طيب أردوغان

جاء رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان من رحم المؤسسة الدينية في تركيا، فهو خريج مدرسة دينية، كما أنه بدأ العمل السياسي من خلال التيار الإسلامي الذي قاده نجم الدين أربكان، لكنه يحاول منذ فوزه بالحكومة في عام 2002 التأكيد على أنه لا يمثل حزبا دينيا، لكنه يريد بناء دولة ديمقراطية تفصل بين الدين والدولة كما في أوروبا ولا تسيطر فيها الدولة على الدين كما هو حال العلمانية التركية.
انخرط أردوغان في سن مبكرة في حزب السلامة الوطنية الذي أسس عام 1972 بزعامة أربكان، وظل عضوا في حزبي الرفاه ثم الفضيلة اللذين شكلهما أربكان إثر موجات الحظر التي كانت تطال أحزابه، وفي عام 1985 أصبح أردوغان رئيسا لفرع حزب الرفاه الوطني في إسطنبول، وفي عام 1994 فاز برئاسة بلدية إسطنبول.
خلال فترة رئاسته بلدية إسطنبول حقق أردوغان إنجازات نوعية للمدينة، الأمر الذي أكسبه شعبية كبيرة في عموم تركيا، لكن هذه الشعبية لم تشفع له حينما خضع لإجراءات قضائية من قبل محكمة أمن الدولة في عام 1998 انتهت بسجنه بتهمة التحريض على الكراهية الدينية ومنعه من العمل في وظائف حكومية ومنها طبعا الترشيح للانتخابات العامة.
كان سبب كل هذه العقوبات ما قاله أردوغان في خطاب جماهيري في نفس العام، حيث اقتبس أبياتا من الشعر التركي تقول (مآذننا رماحنا والمصلون جنودنا).
لم توقف هذه الحادثة طموحات أردوغان السياسية، لكنها ربما تكون قد نبهته إلى صعوبة الاستمرار بنفس النهج الذي دأب أستاذه أربكان على اعتماده، لذلك فهو اغتنم فرصة حظر حزب الفضيلة لينشق مع عدد من الأعضاء ومنهم وزير خارجيته الحالي عبد الله غل ويشكلوا حزب العدالة والتنمية في عام 2001.
منذ البداية أراد أردوغان أن يدفع عن نفسه أي شبهة باستمرار الصلة الأيديولوجية مع أربكان وتياره الإسلامي الذي أغضب المؤسسات العلمانية مرات عدة، فأعلن أن العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية وقال "سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا".
بدا أن أردوغان حاول إمساك العصا من الوسط مقدما شكلا جديدا من الوسطية التي ستكون سببا في فوز حزبه بالأغلبية في انتخابات عام 2002 الأمر الذي جعله يشكل الحكومة منفردا برئاسة عبد الله غل بدلا من أردوغان الذي كان لايزال خاضعا للمنع القانوني.
بعد شهور تم تعديل الدستور للسماح بتولي زعيم الحزب أردوغان منصب رئاسة الوزارة الذي حاول خلال ولايته التأكيد على نهجه الوسطي، فكان يصرح بأن حزبه "ليس حزبا دينيا بل حزب أوروبي محافظ" كما أنه دأب على انتقاد ما قال إنه (استغلال الدين وتوظيفه في السياسة)، وأكد أنه لا ينوي الدخول في مواجهة مع العلمانيين المتشددين وحتى استفزازهم.
في الوقت ذاته ألقى أردوغان بثقله باتجاه قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، لم يكن ذلك فقط لإقناع العلمانيين أنه ليس نسخة من أربكان، لكنه أدرك أيضا أن مثل هذه العضوية ستضع تركيا في فلك الديمقراطية الأوروبية التي ترفض أي دور للعسكر وتمنح الناس حرية التدين أو عدمه وهما أمران يمثلان ضربة قوية لجوهر النظام العلماني التركي الذي يمنح الجيش صلاحيات واسعة ويسيطر على التدين وأشكاله.
وعلى الرغم من أن أردوغان تحاشى أي استفزاز للقوى العلمانية -حتى أنه أرسل ابنته المحجبة إلى أميركا لتدرس هناك بسبب رفض الجامعات التركية قبول طالبات محجبات- فإن ذلك لم يحل دون حديث العلمانيين عن وجود (خطر رجعي) قال قائد الجيش التركي إنه "وصل إلى مستويات قلقة".
وحتى مع عدم اتهام أردوغان مباشرة بالرجعية فإن الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر -وهو من أشد المدافعين عن العلمانية- اتهم قبل بضعة شهور فقط حكومة أردوغان بمحاولة أسلمة كوادر الدولة العلمانية قائلا إن التهديد الأصولي بلغ حدا مقلقا، الأمر الذي رد عليه أردوغان بحدة قائلا إن "من حق المؤمنين في هذا البلد أن يمارسوا السياسة".
هذا الهجوم يأتي قبل بضعة شهور فقط من انتهاء مدة ولاية الرئيس سيزر، واحتمال فوز أردوغان بمنصب رئيس الدولة الذي يمثل قيمة رمزية كبيرة للقوى العلمانية، وهو ما يجعل زعيم حزب العدالة والتنمية أمام مواجهة جديدة تتجاوز تهدئة مشاعر العلمانيين الذين باتوا يشعرون بخطورة هذا الرجل على المشروع الأتاتوركي برمته

posted under | 0 Comments
Newer Posts Older Posts Home

    يا خسارة علينا .

    يا خسارة علينا         .

مدوناتي


المصحف الشريف مكتوب
ملف وورد
هدية للمدونين للاستفادة في الاقتباس
اضغط على الصورة
father small

شرفونا

كلمات أحبها


قال الله تعالى
اني والانس والجن في نبأ عظيم
اخلق ويعبد غيري ... ارزق ويشكر سواي خيري الي العباد نازل ... وشرهم الي صاعد اتودد اليهم بالنعم ... وانا الغني عنهم ويتبغضون الي بالمعاصي ... وهم افقر مايكونوا الي اهل ذكري اهل مجالستي فمن اراد ان يجالسني فليذكرني اهل طاعتي اهل محبتي اهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي ان تابوا فانا حبيبهم وانا ابوا فانا طبيبهم ابتليهم بالمعاصي لاطهرهم من المعايب من اتاني منهم تائبا تلقيته من بعيد ومن اعرض عني ناديته من قريب اقول له: اين تذهب؟ الك رب سواي؟الحسنة عندي بعشر امثالها وازيد والسيئة عندي بمثلها واعفووعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرت لهم

About Me

My photo
مشروع طبيب أحب الحرية جدا واحب الحب وأكره الظلم والنفاق أتمنى أن أرى بلادنا اسمها في السماء و احبكم

لمـــــــــــــــــــاذا دكتـــــــــــــور حر ؟

دكتور لأني طبيب
وحر لأني أؤمن بالحرية وأعشقها وأحلم بها تعم بلادي وكل الدنيا

أكتب هنا في مدونتي أشياء مني تعلمتها وشهدتها أو أصوغها كما رأيتها
خير من أن تظل الفكرة حبيسة الجمجمة
وكما قيل فإن الفكرة طائر وصيدها كتابتها
ولأجعلها ميراثا مكتوبا لمن بعدي
والله المعين

    دكتور حر على الفيس بوك

    القرآن بصوت والدي رحمه الله

    father small

    اخترنا لك


Recent Comments