ملف عن تجربة الإسلاميين في تركيا 5





«إسلاميون» و«علمانيون» في تركيا: الثنائية المعكوسة


بقلم د. عمرو الشوبكي ٣/٥/٠٠٧
ستظل التجربة التركية واحدة من أكثر التجارب في العالم الإسلامي إثارة للجدل، خاصة أنها شهدت تحولات كبري منذ إعلان الجمهورية التركية في عام ١٩٢٣، وإقامة نظام علماني متشدد استبعد القوي الإسلامية من المجال العام، ومعها استبعدت كل القوي السياسية لمدة تجاوزت العقدين، حتي عام ١٩٤٦ حين شهدت البلاد بداية نظام التعددية الحزبية.
ومنذ ذلك التاريخ عرفت تركيا صراعا سياسيا واضح المعالم بين القوي العلمانية المدعومة من المؤسسة العسكرية وبين التيارات الإسلامية أو ذات المسحة الإسلامية، استمر عقوداً طويلة وعرف كثيراً من العنف والقسوة، وتدخلت المؤسسة العسكرية أكثر من مرة من أجل الحفاظ علي النظام العلماني ومبادئ كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية في مواجهة ما سمي «التهديدات الإسلامية».
وقد كرس الدستور الأول للجمهورية التركية في عام ١٩٢٤، حكم الحزب الواحد لمدة عقدين من الزمن حكم فيها حزب أتاتورك «الشعب الجمهوري» بصورة شمولية، إلي أن تأسس الحزب الديمقراطي وحكم مرات متتالية، ثم انتهي أمره بانقلاب عسكري في ٢٧ مايو ١٩٦١ حكم فيه علي رئيس الجمهورية جلال بايار ورئيس الحكومة عدنان مندرس ورئيس المجلس النيابي رفيق كولتان بالإعدام بعد أن اتهموا بأسلمة الدولة وتهديد مبادئ أتاتورك ونظامه العلماني، رغم أنهم كانوا منفتحين بقدر معقول علي الإسلام الثقافي، ولم ينتموا إلي تيارات الإسلام السياسي.
وجاء دستور ١٩٨٢ ـ وهو المطبق حتي الآن ـ ليفتح الباب أمام التعددية الحزبية، ويطلق مساحة من حرية الرأي والتعبير بين القوي والأحزاب العلمانية أساسا، ولكنه فتح الباب أمام العودة الثانية لنجم دين أربكان «أبو الحركة الإسلامية التركية»، والذي قام بتأسيس حزب الرفاه عام ١٩٨٣ عوضا عن حزبي النظام الوطني والسلامة الوطني الذي سبق أن أسسهما في عامي ١٩٧٠ و١٩٧٢ علي التوالي وتم حلهما.
وقد تضمنت مقدمة هذا الدستور أن مصطفي كمال أتاتورك «البطل الخالد» الذي أخرج تركيا من نظام الخلافة إلي نظام الجمهورية، وتقرر المادة الثانية من الدستور أن تركيا جمهورية علمانية تدين بالولاء للقومية الأتاتوركية، وعلي هذا الأساس تم حل حزب الرفاه عام ١٩٩٨، وحُظر العمل السياسي علي رئيسه نجم الدين أربكان مدة خمس سنوات، باعتباره هدد النظام العلماني،

ومن بعده جري حل حزب الفضيلة الذي انتهي به الأمر مقسماً إلي حزبين: حزب السعادة الذي يقوده الآن نجمد الدين أربكان وحصل في الانتخابات الأخيرة علي أقل من ٣%، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة الحالي، والذي حوكم أيضاً علي خطاب ألقاه في تجمع سياسي أشار فيه إلي «قوة الإيمان والمؤمنين»،

















واعتبر ذلك تحريضا علي النظام العلماني وخلطاً للدين بالسياسة، والمؤكد أن التحول الحقيقي في المعادلة العلمانية/الإسلامية قد بدأ بعد فشل تجربة نجم الدين أربكان عقب وصوله إلي الحكم عام ١٩٩٥، وقيام الجيش بإجباره علي الاستقالة عام ١٩٩٨ فيما عرف باسم الانقلاب الأبيض، حيث يمكن وصف هذه المواجهة بأنها كانت بين مشروع لديه توجهات إسلامية ديمقراطية يعبر عنه أربكان، وآخر علماني لا يقبل بوجود أي مشروع إسلامي ولو معتدل داخل النظام السياسي التركي.
والمؤكد أن مشروع أربكان حمل بعض جوانب مشروع الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي، ولكن في ظل واقع سياسي وثقافي مختلف تماما عن الواقع العربي، فالحالة التركية تحكمها قواعد محددة تتسم بالصرامة الشديدة، وتدفع أي تيار سياسي بما فيه التيار الإسلامي إلي ضرورة احترامها، علي عكس الحالة المصرية التي تتسم بالفوضي الهائلة، ولا تطالب أي تيار سياسي بالالتزام بأي قواعد قانونية ودستورية،
إنما المطلوب منه فقط أن يكون ضعيفا وباهتا حتي يمكنه الاستمرار في المعادلة السياسية، ولذا سنجد أن مشكلة الإخوان مع النظام المصري لم تكن بسبب أنهم تيار إسلامي، ولكن بسبب قوتهم التنظيمية والسياسية، خاصة أن الحكومة وحزبها الحاكم يوظفان الدين في المجال العام بصورة أكبر من التيارات الإسلامية، وهذا علي عكس التجربة التركية التي اتسمت قواها العلمانية بالاتساق مع النفس رغم تطرف مشروعها وأخطائه الكثيرة.
ومنذ فشل مشروع أربكان بسبب عدم واقعيته وعجزه عن الهروب من الثنائية العلمانية/الإسلامية في تركيا، جاءت تجربة «جيل الوسط» بقيادة رجب طيب أردوجان، الذي انشق عن حزب أربكان وأسس حزب العدالة والتنمية الذي أخذ علي عاتقه مهمة بناء حزب جديد يختلف في رؤيته الفكرية والسياسية عن تلك التي قامت عليها كل الأحزاب الإسلامية في تركيا، ويبدأ في تأسيس مرحلة جديدة سعت عمليا إلي أن تكسر ثنائية العلمانية/الإسلام في تركيا الحديثة.
واتضحت ملامح هذه المرحلة الجديدة عقب الانتصار الكاسح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر ٢٠٠٢، وأعلن أنه لا يرغب في تأسيس نظام إسلامي، ولم يصنف نفسه من الأساس باعتباره حزب «إسلامي ديمقراطي» كما فعل أربكان، إنما تيار «محافظ ديمقراطي»، وأعلن تمسكه بالعلمانية، ولكنه طالب بأن تكون علمانية علي الطريقة الأوربية وليست كمالية ـ نسبة لكمال أتاتورك ـ أي تفصل بين الدين والدولة، ولا تتدخل الثانية في أمور الأولي، كما تفعل العلمانية التركية التي قامت فيها الدولة بقهر المؤسسات الدينية.
وربط حزب العدالة والتنمية القيم الإسلامية بـ «المحلية التركية»، وصار الحديث عن الثقافة والخصوصية التركية مرادفاً ولو ضمنا للحديث عن القيم الإسلامية، دون أن يتبني تطبيق الشريعة الإسلامية، معتبرا أنه «حين توجد مصلحة الناس يوجد شرع الله».
وسعي حزب أردوجان في الواقع العملي إلي بناء نظام سياسي ينزع من علمانيته هذا الجانب المحارب والأيديولوجي المغلق، الذي عرفته طوال عقود طويلة، وأدت في النهاية إلي جعل خطاب القوي العلمانية في تركيا مرادفاً للانغلاق السياسي والتعصب القومي والعداء لأوروبا والعرب والكرد، وبدا أردوجان في صورة العلماني الإصلاحي الذي يواجه علمانية مغلقة، وليس الإسلامي الذي يواجه العلمانية الديمقراطية، وعزز من قدراته أن حكومته حققت إنجازات اقتصادية هائلة في السنوات الخمس الأخيرة، وأجرت إصلاحات سياسية عميقة في مجال الحريات العامة وحقوق الأقليات.
وعلي عكس ما يتصور البعض، بسطحية شديدة، أن تجربة حزب العدالة والتنمية هي تجربة إسلامية تهدد المبادئ العلمانية والديمقراطية في تركيا، فإن الصحيح أن هذه التجربة هي الأكثر تعبيرا عن «العلمانية المحايدة» وليس «العلمانية الأيديولوجية» المنغلقة، وهي الأكثر ليبرالية وانفتاحا علي المعايير الأوروبية بصورة وضعتها لأول مرة علي أبواب الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي.



والمؤكد أن إنجازات هذه الحكومة علي أرض الواقع ستجعل من مسألة قيام الجيش بانقلاب عسكري أمراً شبه مستحيل، ولكنه سيظل يتحرك كجماعة ضغط وكحارس للنظام العلماني، والمؤكد أن حزب العدالة والتنمية ومعه الكثير من التيارات العلمانية داخل المؤسسة العسكرية وخارجها يرغبون في تجاوز هذه العلمانية الاستئصالية، لا هدم النظام العلماني، ولا القضاء علي مدنية الدولة

posted under |

0 قالوا رأيهم/ أضف تعليقك:

Post a Comment

زد الموضوع جمالا بتعليقك

Newer Post Older Post Home

    يا خسارة علينا .

    يا خسارة علينا         .

مدوناتي


المصحف الشريف مكتوب
ملف وورد
هدية للمدونين للاستفادة في الاقتباس
اضغط على الصورة
father small

شرفونا

كلمات أحبها


قال الله تعالى
اني والانس والجن في نبأ عظيم
اخلق ويعبد غيري ... ارزق ويشكر سواي خيري الي العباد نازل ... وشرهم الي صاعد اتودد اليهم بالنعم ... وانا الغني عنهم ويتبغضون الي بالمعاصي ... وهم افقر مايكونوا الي اهل ذكري اهل مجالستي فمن اراد ان يجالسني فليذكرني اهل طاعتي اهل محبتي اهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي ان تابوا فانا حبيبهم وانا ابوا فانا طبيبهم ابتليهم بالمعاصي لاطهرهم من المعايب من اتاني منهم تائبا تلقيته من بعيد ومن اعرض عني ناديته من قريب اقول له: اين تذهب؟ الك رب سواي؟الحسنة عندي بعشر امثالها وازيد والسيئة عندي بمثلها واعفووعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرت لهم

About Me

My photo
مشروع طبيب أحب الحرية جدا واحب الحب وأكره الظلم والنفاق أتمنى أن أرى بلادنا اسمها في السماء و احبكم

لمـــــــــــــــــــاذا دكتـــــــــــــور حر ؟

دكتور لأني طبيب
وحر لأني أؤمن بالحرية وأعشقها وأحلم بها تعم بلادي وكل الدنيا

أكتب هنا في مدونتي أشياء مني تعلمتها وشهدتها أو أصوغها كما رأيتها
خير من أن تظل الفكرة حبيسة الجمجمة
وكما قيل فإن الفكرة طائر وصيدها كتابتها
ولأجعلها ميراثا مكتوبا لمن بعدي
والله المعين

    دكتور حر على الفيس بوك

    القرآن بصوت والدي رحمه الله

    father small

    اخترنا لك


Recent Comments